سورة النور : الآية 58

تفسير الآية 58 سورة النور

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لِيَسْتَـْٔذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا۟ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَٰثَ مَرَّٰتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَوٰةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعْدِ صَلَوٰةِ ٱلْعِشَآءِ ۚ ثَلَٰثُ عَوْرَٰتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌۢ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّٰفُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه مُروا عبيدكم وإماءكم، والأطفال الأحرار دون سن الاحتلام أن يستأذنوا عند الدخول عليكم في أوقات عوراتكم الثلاثة: من قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، ووقت خلع الثياب للقيلولة في الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت للنوم، وهذه الأوقات الثلاثة عورات لكم، يقل فيها التستر، أما فيما سواها فلا حرج إذا دخلوا بغير إذن؛ لحاجتهم في الدخول عليكم، طوافون عليكم للخدمة، وكما بيَّن الله لكم أحكام الاستئذان يبيِّن لكم آياته وأحكامه وحججه وشرائع دينه. والله عليم بما يصلح خلقه، حكيم في تدبيره أمورهم.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم» من العبيد آمنوا والإماء «والذين لم يبلغوا الحلم منكم» من الأحرار وعرفوا أمر النساء «ثلاث مرات» في ثلاثة أوقات «من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة» أي وقت الظهر «ومن بعد الصلاة العشاء ثلاث عورات لكم» بالرفع خبر مبتدأ بعده مضاف وقام المضاف إليه مقامه: أي هي أوقات وبالنصب بتقدير أوقات منصوبا بدلاً من محل ما قبله قام المضاف إليه مقامه، وهي لإلقاء الثياب تبدو فيها العورات «ليس عليكم ولا عليهم» أي المماليك والصبيان «جناح» في الدخول عليكم بغير استئذان «بعدهن» أي بعد الأوقات الثلاثة هم «طوافون عليكم» للخدمة «بعضكم» طائف «على بعض» والجملة مؤكدة لما قبلها «كذلك» كما بين ما ذكر «يبين الله لكم الآيات» أي الأحكام «والله عليم» بأمور خلقه «حكيم» بما دبره لهم وآية الاستئذان قيل منسوخة وقيل لا ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم، والذين لم يبلغوا الحلم منهم. قد ذكر الله حكمته وأنه ثلاث عورات للمستأذن عليهم، وقت نومهم بالليل بعد العشاء، وعند انتباههم قبل صلاة الفجر، فهذا -في الغالب- أن النائم يستعمل للنوم في الليل ثوبا غير ثوبه المعتاد، وأما نوم النهار، فلما كان في الغالب قليلا، قد ينام فيه العبد بثيابه المعتادة، قيده بقوله: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: للقائلة، وسط النهار.ففي ثلاثة هذه الأحوال، يكون المماليك والأولاد الصغار كغيرهم، لا يمكنون من الدخول إلا بإذن، وأما ما عدا هذه الأحوال الثلاثة فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ أي: ليسوا كغيرهم، فإنهم يحتاج إليهم دائما، فيشق الاستئذان منهم في كل وقت، ولهذا قال: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أي: يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ بيانا مقرونا بحكمته، ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه وحكمته، ولهذا قال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ له العلم المحيط بالواجبات والمستحيلات والممكنات، والحكمة التي وضعت كل شيء موضعه، فأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، وأعطى كل حكم شرعي حكمه اللائق به، ومنه هذه الأحكام التي بينها وبين مآخذها وحسنها.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض . وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض . فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال : الأول من قبل صلاة الغداة; لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم ( وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) أي : في وقت القيلولة; لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله ، ( ومن بعد صلاة العشاء ) لأنه وقت النوم ، فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله ، ونحو ذلك من الأعمال; ولهذا قال : ( ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ) أي : إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك ، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال; لأنه قد أذن لهم في الهجوم ، ولأنهم ) طوافون ) عليكم ، أي : في الخدمة وغير ذلك ، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم; ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة : " إنها ليست بنجس; إنها من الطوافين عليكم - أو - والطوافات " .ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء ، وكان عمل الناس بها قليلا جدا ، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس ، كما قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم [ منكم ثلاث مرات ] ) إلى آخر الآية ، والآية التي في سورة النساء : ( وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ) [ النساء : 8 ] ، والآية التي في الحجرات : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ الحجرات : 13 ]وروي أيضا من حديث إسماعيل بن مسلم - وهو ضعيف - عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات ، فلم يعملوا بهن : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) إلى آخر الآية .وقال أبو داود : حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة - وهذا حديثه - أخبرنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : لم يؤمن بها أكثر الناس - آية الإذن - وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي .قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء ، عن ابن عباس يأمر به .وقال الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي : ( ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) ، قال : لم تنسخ . قلت : فإن الناس لا يعملون بها . فقال : الله المستعان .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا سليمان بن بلال ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة عن ابن عباس ; أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن ، فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم ، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره ، وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله . ثم جاء الله بعد بالستور ، فبسط [ الله ] عليهم الرزق ، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به .وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه أبو داود ، عن القعنبي ، عن الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عمرو به .وقال السدي : كان أناس من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن .وقال مقاتل بن حيان : بلغنا - والله أعلم - أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ، فجعل الناس يدخلون بغير إذن ، فقالت أسماء : يا رسول الله ، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد ، غلامهما بغير إذن! فأنزل الله في ذلك : ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم [ ثلاث مرات ] ) الآية .ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ ، قوله : ( كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ...روايات منها: أن امرأة يقال لها أسماء بنت أبى مرثد، دخل عليها غلام كبير لها، في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تعالى هذه الآية:ومنها ما روى من أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعث في وقت الظهيرة غلاما من الأنصار يقال له مدلج، إلى عمر بن الخطاب، فدق الغلام الباب على عمر- وكان نائما- فاستيقظ، وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر: لوددت أن الله- تعالى- نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق عمر مع الغلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا لله- تعالى- .وقد صدرت الآية الكريمة بندائهم بصفة الإيمان. لحضهم على الامتثال لما اشتملت عليه من آداب قويمة. وتوجيهات حكيمة.واللام في قوله لِيَسْتَأْذِنْكُمُ هي لام الأمر والمراد بما ملكت أيمانهم: الأرقاء سواء أكانوا ذكورا أم إناثا، ويدخل فيهم الخدم ومن على شاكلتهم.والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم. الأطفال الذين في سن الصبا ولم يصلوا إلى سن البلوغ إلا أنهم يعرفون معنى العورة ويميزون بين ما يصح الاطلاع عليه وما لا يصح.والمعنى: يا من آمنتم بالله حق الإيمان من الرجال، والنساء، عليكم أن تمنعوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم الذين لم يبلغوا سن البلوغ، من الدخول عليكم في مضاجعكم بغير إذن في هذه الأوقات الثلاثة، خشية أن يطلعوا منكم على ما لا يصح الاطلاع عليه.فقوله- تعالى-: ثَلاثَ مَرَّاتٍ تحديد للأوقات المنهي عن الدخول فيها بدون استئذان، أى: ثلاث أوقات في اليوم والليلة.ثم بين- سبحانه- هذه الأوقات فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وذلك لأن هذا الوقت يقوم فيه الإنسان من النوم عادة، وقد يكون متخففا من ثيابه. ولا يجب أن يراه أحد وهو على تلك الحالة.وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أى: وحين تخلعون ثيابكم وتطرحونها في وقت الظهيرة، عند شدة الحر، لأجل التخفيف منها وارتداء ثياب أخرى أرق من تلك الثياب، طلبا للراحة واستعدادا للنوم.وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأن هذا الوقت يتجرد فيه الإنسان من ثياب اليقظة، ليتخذ ثيابا أخرى للنوم.وقوله- سبحانه-: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ خبر مبتدأ محذوف، والعورات: جمع عورة.وتطلق على ما يجب ستره من الإنسان، وهي- كما يقول الراغب- مأخوذة من العار، وذلك لأن المظهر لها يلحقه العار والذم بسبب ذلك.أى: هذه الأوقات من ثلاث عورات كائنة لكم- فعليكم أن تعودوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم. على الاستئذان عند إرادة الدخول عليكم فيها، لأنها أوقات يغلب فيها اختلاء الرجل بأهله، كما يغلب فيها التخفف من الثياب، وانكشاف ما يجب ستره.وقوله- سبحانه-: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ بيان لمظهر من مظاهر التيسير في شريعة الإسلام.أى: وليس عليكم أيها المؤمنون والمؤمنات، ولا عليهم، أى: أرقائكم وصبيانكم «جناح» أى: حرج أو إثم في الدخول بدون استئذان «بعدهن» أى: بعد كل وقت من تلك الأوقات الثلاثة.وقوله- تعالى- طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ تعليل لبيان العذر المرخص في ترك الاستئذان في غير الأوقات التي حددها الله- تعالى-.أى: لا حرج في دخول مماليككم وصبيانكم عليكم في غير هذه الأوقات بدون استئذان لأنهم تكثر حاجتهم في التردد عليكم، وأنتم كذلك لا غنى لكم عنهم فأنتم وهم يطوف بعضكم على بعض لقضاء المصالح في كثير من الأوقات.وبذلك يجمع الإسلام في تعاليمه بين التستر والاحتشام والتأدب بآدابه القويمة، وبين السماحة وإزالة الحرج والمشقة.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.أى: مثل هذا البيان الحكيم يبين الله- تعالى- لكم الآيات التي توصلكم متى تمسكتم بها، إلى طريق الخير والسعادة، والله- عز وجل- عليم بما يصلح عباده، حكيم في كل ما يأمر به، أو ينهى عنه.وهكذا تسوق لنا الآية الكريمة ألوانا من الأدب السامي، الذي يجعل الكبار والصغار يعيشون عيشة فاضلة، عامرة بالطهر والعفاف والحياء، والنقاء من كل ما يجرح الشعور، ومن كل تصور يتنافى مع الخلق الكريم.

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) الآية : قال ابن عباس رضي الله عنهما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل الله هذه الآية وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى " ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم اللام لام الأمر . ( الذين ملكت أيمانكم ) يعني : العبيد والإماء ، ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) من الأحرار ، ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ولكن لم يبلغوا .) ( ثلاث مرات ) أي : ليستأذنوا في ثلاث أوقات ، ( من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) يريد المقيل ، ( ومن بعد صلاة العشاء ) وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد ، أمر العبيد والصبيان بالاستئذان في هذه الأوقات ، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات ( ثلاث عورات لكم ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : " ثلاث " بنصب الثاء بدلا عن قوله : " ثلاث مرات " ، وقرأ الآخرون بالرفع ، أي : هذه الأوقات ثلاث عورات لكم ، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته ، ) ( ليس عليكم ) جناح ، ) ( ولا عليهم ) يعني : على العبيد والخدم والصبيان ، ) ( جناح ) في الدخول عليكم من غير استئذان ، ) ( بعدهن ) أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة ، ) ( طوافون عليكم ) أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن ، ( بعضكم على بعض ) أي : يطوف ، ( بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) واختلف العلماء في حكم هذه الآية : فقال قوم : منسوخ .قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، فكان الخدم والولائد يدخلون فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة ، روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت : سألت الشعبي عن هذه الآية : " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " أمنسوخة هي ؟ قال : لا والله ، قلت : إن الناس لا يعملون بها ، قال : الله المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية : إن ناسا يقولون نسخت ، والله ما نسخت ، ولكنها مما تهاون به الناس .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيمفيه سبعة مسائل :الأولى : قال العلماء ، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة ؛ لأنه قال : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ثم خص هنا فقال : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم فخص في هذه الآية بعض المستأذنين ، وكذلك أيضا يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموما . وخص في هذه الآية بعض الأوقات ، فلا يدخل فيها عبد ولا أمة ؛ وغدا كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان . قال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، دخل عليها غلام لها كبير ، فاشتكت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فنزلت عليه الآية . وقيل : سبب نزولها دخول مدلج على عمر ؛ وسيأتي .الثانية : اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : ليستأذنكم على ستة أقوال :الأول : أنها منسوخة ، قاله ابن المسيب ، وابن جبير .الثاني : أنها ندب غير واجبة ؛ قاله أبو قلابة ، قال : إنما أمروا بهذا نظرا لهم .الثالث : عنى بها النساء ؛ قاله أبو عبد الرحمن السلمي .[ الرابع ] : وقال ابن عمر : هي في الرجال دون النساء . وهو القول الرابع .الخامس : كان ذلك واجبا ، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب ، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي ، عن ابن عباس .السادس : أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء ؛ وهو قول أكثر أهل العلم ؛ منهم القاسم ، وجابر بن زيد ، والشعبي . وأضعفها قول السلمي لأن ( الذين ) لا يكون للنساء في كلام العرب ، إنما يكون للنساء - اللاتي واللواتي - وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر ، لأن ( الذين ) للرجال في كلام العرب ، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل ، والكلام على ظاهره ، غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم . وأما قول ابن عباس فروى أبو داود ، عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول : آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي . قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء ، عن ابن عباس ( يأمر به ) . وروى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا : يا ابن عباس ، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد ، قول الله - عز وجل - يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم . قال أبو داود : قرأ القعنبي إلى ( عليم حكيم ) قال ابن عباس : إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم ، أو الولد ، أو يتيمة الرجل والرجل على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور والخير ، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد .قلت : هذا متن حسن ، وهو يرد قول سعيد ، وابن جبير ؛ فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية ، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت ، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان ، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحاري ونحوها . وروى وكيع ، عن سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن الشعبي ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قال : ليست بمنسوخة . قلت : إن الناس لا يعملون بها ؛ قال : الله - عز وجل - المستعان .الثالثة : قال بعض أهل العلم : إن الاستئذان ثلاثا مأخوذ من قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات قال يزيد : ثلاث دفعات . قال : فورد القرآن في المماليك والصبيان ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجميع . قال ابن عبد البر : ما قاله من هذا وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها ، والذي عليه جمهورهم في قوله : ثلاث مرات أي في ثلاث أوقات . ويدل على صحة هذا القول ذكره فيها من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء .الرابعة : أدب الله - عز وجل - عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم ، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها ، يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها ، وملازمة التعري . فما قبل الفجر وقت انتهاء النوم ، ووقت الخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار . ووقت القائلة وقت التجرد أيضا ، وهي الظهيرة ، لأن النهار يظهر فيها إذا علا شعاعه واشتد حره . وبعد صلاة العشاء وقت التعري للنوم ؛ فالتكشف غالب في هذه الأوقات . يروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه ، فوجده نائما قد أغلق عليه الباب ، فدق عليه الغلام الباب فناداه ، ودخل ، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء ، فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا ، ونساءنا ، وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن ؛ ثم انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد هذه الآية قد أنزلت ، فخر ساجدا شكرا لله . وهي مكية .الخامسة : قوله تعالى : والذين لم يبلغوا الحلم منكم أي الذين لم يحتلموا من أحراركم ؛ قاله مجاهد . وذكر إسماعيل بن إسحاق كان يقول : ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم ، على التقديم والتأخير ، وأن الآية في الإماء . وقرأ الجمهور بضم اللام ، وسكنها الحسن بن أبي الحسن لثقل الضمة ، وكان أبو عمرو يستحسنها . و ثلاث مرات نصب على الظرف ؛ لأنهم لم يؤمروا بالاستئذان ثلاثا ، إنما أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن ، والظرفية في ( ثلاث ) بينة : من قبل صلاة الفجر ، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء . وقد مضى معناه . ولا يجب أن يستأذن ثلاث مرات في كل وقت . ثلاث عورات لكم قرأ جمهور السبعة ثلاث عورات برفع ( ثلاث ) . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم ( ثلاث ) بالنصب على البدل من الظرف في قوله : ( ثلاث مرات ) . قال أبو حاتم : النصب ضعيف مردود . وقال الفراء : الرفع أحب إلي . قال : وإنما اخترت الرفع لأن المعنى : هذه الخصال ثلاث عورات . والرفع عند الكسائي بالابتداء ، والخبر عنده ما بعده ، ولم يقل بالعائد ، وقال نصا بالابتداء . قال : والعورات الساعات التي تكون فيها العورة ؛ إلا أنه قرأ بالنصب ، والنصب فيه قولان : أحدهما : أنه مردود على قوله ثلاث مرات ؛ ولهذا استبعده الفراء . وقال الزجاج : المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات ؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . و ( عورات ) جمع عورة ، وبابه في الصحيح أن يجيء على فعلات ( بفتح العين ) كجفنة وجفنات ، ونحو ذلك ، وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات ؛ لأن فتحه داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك ؛ فأما قول الشاعر :أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوحفشاذ .السادسة : قوله تعالى : ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن أي في الدخول من غير أن يستأذنوا وإن كنتم متبذلين . ( طوافون ) بمعنى هم طوافون . قال الفراء : كقولك في الكلام إنما هم خدمكم وطوافون عليكم . وأجاز الفراء نصب ( طوافين ) لأنه نكرة ، والمضمر في ( عليكم ) معرفة . ولا يجيز البصريون أن يكون حالا من المضمرين اللذين في ( عليكم ) وفي ( بعضكم ) لاختلاف العاملين . ولا يجوز مررت بزيد ، ونزلت على عمرو العاقلين ، على النعت لهما . فمعنى طوافون عليكم أي يطوفون عليكم وتطوفون عليهم ؛ ومنه الحديث في الهرة إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات . فمنع في الثلاث العورات من دخولهم علينا ؛ لأن حقيقة العورة كل شيء لا مانع دونه ، ومنه قوله : إن بيوتنا عورة أي سهلة للمدخل ، فبين العلة الموجبة للإذن ، وهي الخلوة في حال العورة ؛ فتعين امتثاله وتعذر نسخه . ثم رفع الجناح بقوله : ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض أي يطوف بعضكم على بعض . كذلك يبين الله لكم الآيات الكاف في موضع نصب ؛ أي يبين الله لكم آياته الدالة على متعبداته بيانا مثل ما يبين لكم هذه الأشياء . والله عليم حكيم تقدم .السابعة : قوله تعالى : ومن بعد صلاة العشاء يريد العتمة . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل . وفي رواية فإنها في كتاب الله العشاء وإنها تعتم بحلاب الإبل . وفي البخاري عن أبي برزة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء . وقال أنس : أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء . وهذا يدل على العشاء الأولى . وفي الصحيح : فصلاها ، يعني العصر بين العشاءين المغرب والعشاء . وفي الموطأ وغيره : ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا . وفي مسلم ، عن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصلوات نحوا من صلاتكم ، وكان يؤخر العتمة بعد صلاتكم شيئا ، وكان يخف الصلاة . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وهذه أخبار متعارضة ، لا يعلم منها الأول من الآخر بالتاريخ ، ونهيه - عليه السلام - عن تسمية المغرب عشاء ، وعن تسمية العشاء عتمة ثابت ، فلا مرد له من أقوال الصحابة فضلا عمن عداهم . وقد كان ابن عمر يقول : من قال صلاة العتمة فقد أثم . وقال ابن القاسم : قال مالك : ومن بعد صلاة العشاء فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تسمى بما سماها الله تعالى به ويعلمها الإنسان أهله وولده ، ولا يقال عتمة إلا عند خطاب من لا يفهم وقد قال حسان :وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاءفدع هذا ولكن من لطيف يؤرقني إذا ذهب العشاءوقد قيل : إن هذا النهي عن اتباع الأعراب في تسميتهم العشاء عتمة ، إنما كان لئلا يعدل بها عما سماها الله تعالى في كتابه إذ قال : ومن بعد صلاة العشاء ؛ فكأنه نهي إرشاد إلى ما هو الأولى ، وليس على جهة التحريم ، ولا على أن تسميتها العتمة لا يجوز . ألا ترى أنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق عليها ذلك ، وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - . وقيل : إنما نهى عن ذلك تنزيها لهذه العبادة الشريفة الدينية عن أن يطلق عليها ما هو اسم لفعلة دنيوية ، وهي الحلبة التي كانوا يحلبونها في ذلك الوقت ويسمونها العتمة ؛ ويشهد لهذا قوله : ( فإنها تعتم بحلاب الإبل ) .الثامنة : روى ابن ماجه في سننه ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمارة بن غزية ، عن أنس بن مالك ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : من صلى في جماعة أربعين ليلة لا تفوته الركعة الأولى من صلاة العشاء كتب الله بها عتقا من النار . وفي صحيح مسلم ، عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله . وروى الدارقطني في سننه ، عن سبيع ، أو تبيع ، عن كعب قال : ( من توضأ فأحسن الوضوء وصلى العشاء الآخرة وصلى بعدها أربع ركعات فأتم ركوعهن وسجودهن ويعلم ما يقترئ فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر ) .
ex