سورة النساء : الآية 93

تفسير الآية 93 سورة النساء

وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

ومن يَعْتَدِ على مؤمن فيقتله عن عمد بغير حق فعاقبته جهنم، خالدًا فيها مع سخط الله تعالى عليه وطَرْدِهِ من رحمته، إن جازاه على ذنبه وأعدَّ الله له أشد العذاب بسبب ما ارتكبه من هذه الجناية العظيمة. ولكنه سبحانه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان فلا يجازيهم بالخلود في جهنم.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«ومن يقتل مؤمنا متعمِّدا» بأن يقصد قتله بما يقتل غالبا عالما بإيمانه «فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه» أبعده من رحمته «وأعد له عذابا عظيما» في النار وهذا مؤوَّل بمن يستحله أو بأن هذا جزاؤه إن جُوزي ولا يدفع في خلف الوعيد لقوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وعن ابن عباس أنها على ظاهرها وأنها ناسخة لغيرها من آيات المغفرة وبينت آية البقرة أن قاتل العمد يقتل به وأن عليه الدية إن عفي عنه وسبق قدرها وبينت السنة أن بين العمد والخطأ قتلا يسمى شبه العمد وهو أن يقتله بما لا يقتل غالبا فلا قصاص فيه بل دية كالعمد في الصفة والخطأ في التأجيل والحمل وهو والعمد أولى بالكفارة من الخطأ.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر العملي، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول. فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته. وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان الجنة. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين. والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين بن القيم رحمه الله في "المدارج" فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال: وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه. وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين. ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها. قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما. وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما. فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة، وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له. ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه. ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي عين. ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره. وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات، كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه، وهذا من أحب الخلق إلى الله. انتهى كلامه قدس الله روحه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ ، شرع في بيان حكم القتل العمد ، فقال : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا [ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول ، سبحانه ، في سورة الفرقان : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [ ولا يزنون ] ) الآية [ الفرقان : 68 ] وقال تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) [ إلى أن قال :( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) [ الأنعام : 151 ] .والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا . من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما ، فإذا أصاب دما حراما بلح " وفي حديث آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " وفي الحديث الآخر : " لو أجمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله في النار " وفي الحديث الآخر : " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله " .وقد كان ابن عباس ، رضي الله عنهما ، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن .وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا مغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم [ خالدا ] ) هي آخر ما نزل وما نسخها شيء .وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق ، عن شعبة ، به ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا ) فقال : لم ينسخها شيء .[ وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قال عبد الرحمن بن أبزى : سئل ابن عباس عن قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا ) فقال : لم ينسخها شيء ] وقال في هذه الآية : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ] ) [ الفرقان : 68 ] قال نزلت في أهل الشرك .وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، حدثني سعيد بن جبير - أو حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير - قال : سألت ابن عباس عن قوله [ تعالى ] ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .حدثنا ابن حميد ، وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن أبي الجعد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : ( جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده ! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " ثكلته أمه ، قاتل مؤمن متعمدا ، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دما في قبل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى ، يقول : سل هذا فيم قتلني " ؟ وايم الذي نفس عبد الله بيده ! لقد أنزلت هذه الآية ، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدها من برهان .وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت يحيى بن المجبر يحدث عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ; أن رجلا أتاه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا ؟ فقال : ( جزاؤه جهنم خالدا فيها [ وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة . وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : " ثكلته أمه ، رجل قتل رجلا متعمدا ، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره - وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله - تشخب أوداجه دما من قبل العرش يقول : يا رب ، سل عبدك فيم قتلني ؟ " .وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمار الدهني ، ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، فذكره وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة .وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف : زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبيد بن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم .وفي الباب أحاديث كثيرة : من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي وحدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة ، آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول : قتلته لتكون العزة لك . فيقول : فإنها لي " . قال : " ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول قتلته لتكون العزة لفلان " . قال : " فإنها ليست له بؤ بإثمه " . قال : " فيهوي في النار سبعين خريفا " .وقد رواه عن النسائي ، عن إبراهيم بن المستمر العوفي ، عن عمرو بن عاصم ، عن معتمر بن سليمان ، بهحديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " .وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به .وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا سمويه ، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا خالد بن دهقان ، حدثنا ابن أبي زكريا قال : سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا " .وهذا غريب جدا من هذا الوجه . والمحفوظ حديث معاوية المتقدم فالله أعلم .ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد ، عن نافع بن يزيد ، حدثني ابن جبير الأنصاري ، عن داود بن الحصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل " .وهذا حديث منكر أيضا ، وإسناده تكلم فيه جدا .وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي ، فقال لنا : هلما فأنتما أشب شيئا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم - فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك . فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فأغارت على قوم ، فشد من القوم رجل ، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم : إني مسلم . فلم ينظر فيما قال ، فضربه فقتله ، فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ، فبلغ القاتل . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذ قال القاتل : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضا : يا رسول الله ، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم لم يصبر ، فقال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل . فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه ، فقال : " إن الله أبى على من قتل مؤمنا " ثلاثا .ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرةوالذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته .قال الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ] . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا [ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ] ) [ الفرقان : 68 ، 69 ] وهذا خبر لا يجوز نسخه . وحمله على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .وقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [ إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ] ) [ الزمر : 53 ] وهذا عام في جميع الذنوب ، من كفر وشرك ، وشك ونفاق ، وقتل وفسق ، وغير ذلك : كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه .وقال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] . فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم .وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ! ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه ، فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة . كما ذكرناه غير مرة ، إن كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ; لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة . فأما الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا [ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه ، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا ، من طريق محمد بن جامع العطار ، عن العلاء بن ميمون العنبري ، عن حجاج الأسود ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة : أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط . وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب . وبتقدير دخول القاتل إلى النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به ، فليس يخلد فيها أبدا ، بل الخلود هو المكث الطويل . وقد تواردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان . وأما حديث معاوية : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " : " عسى " للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفى وقوع ذلك في أحدهما ، وهو القتل ; لما ذكرنا من الأدلة . وأما من مات كافرا ; فالنص أنه لا يغفر له البتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة ، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء ، من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم .ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة أما [ في ] الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه ، قال الله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ] ) [ الإسراء : 33 ] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا : ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة كما هو مقرر في كتب الأحكام .واختلف الأئمة : هل تجب عليه كفارة : عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ؟ على أحد القولين ، كما تقدم في كفارة الخطأ ، على قولين : فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم ، يجب عليه ; لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى . وطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس ، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا ، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ .قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر ، فلا كفارة فيه ، وكذا اليمين الغموس ، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا ، فإنهم يقولون : بوجوب قضائها وإن تركت عمدا .وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الغريف بن عياش ، عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب . قال : " فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار " .وقال أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار " .وكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، به ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان . فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار " .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ثم بين- سبحانه- بعد ذلك سوء عاقبة من يقتل مؤمنا متعمدا فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً.أى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قتله فَجَزاؤُهُ الذي يستحقه بسبب هذه الجناية الكبيرة «جهنم خالدا فيها» أى باقيا فيها مدة طويلة لا يعلم مقدارها إلا الله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بسبب ما ارتكبه من منكر وَلَعَنَهُ أى طرده من رحمته وَأَعَدَّ لَهُ من وراء ذلك كله عَذاباً عَظِيماً يوم القيامة.هذا وقد ساق المفسرون جملة من الآيات والأحاديث التي تهدد مرتكب هذه الكبيرة بالعذاب الشديد واختلفوا في حكمها هل هي منسوخة أولا؟ وهل للقاتل عمدا توبة أو لا؟وقد أفاض الإمام ابن كثير في بيان كل ذلك فقال ما ملخصه:«هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم والذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية. قال- تعالى- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء» وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال المؤمن معتقا- أى خفيف الظهر، سريع السير- ما لم يصب دما حراما. فإذا أصاب دما حراما بلح» أى: أعيا وانقطع.وفي حديث آخر: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» .ثم قال: وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا.وقال البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال:سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة. فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها.فقال: نزلت هذه الآية. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.وروى ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير قال. سألت ابن عباس عن قوله- تعالى- وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً. فقال: إن الرجل إذا عرف الإسلام، وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ولا توبة له.ثم قال: والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها. أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله- تعالى- فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته.قال الله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك. وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء.والمراد بالخلود هنا المكث الطويل. وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان.وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر والتوبة لا أنه يعتقد بطلان توبته .والآية الكريمة وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. الصواب في معناها: أن جزاءه جهنم. فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره. وقد لا يجازى بل يعفى عنه. فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد. يخلد في جهنم بالإجماع. وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص. مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها. ولكن تفضل- سبحانه- فأخبر أنه لا يخلد فيها من مات موحدا فلا يخلد هذا. وقد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا. وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين. ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار. فهذا هو الصواب في معنى الآية .وبهذا نرى أن الآية الكريمة تنهى المؤمن نهيا قاطعا عن أن يمد يده بالسوء لقتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحق، وتتوعد الذي يفعل ذلك بغضب الله عليه وطرده من رحمته، وإلحاق العذاب العظيم به يوم القيامة.وبعد هذا التحذير الشديد من قتل النفس بغير حق، وجه القرآن نداء إلى المؤمنين نهاهم فيه عن القتل بدون تبين أو تثبت من أجل التوصل إلى عرض من أعراض الدنيا الفانية، فقال- تعالى-:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ) الآية ، نزلت في مقيس بن صبابة الكناني ، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام ، فوجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه ، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي ديته ، فأعطوه مائة من الإبل ، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه ، فقال : تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة ، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية؛ فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخه ، ثم ركب بعيرا وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا فنزل فيه : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا ( فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) بكفره وارتداده ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ، عمن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة .قوله تعالى : ( وغضب الله عليه ولعنه ) أي : طرده عن الرحمة ، ( وأعد له عذابا عظيما ) اختلفوا في حكم هذه الآية .فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له ، فقيل له : أليس قد قال الله في سورة الفرقان : ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى أن قال ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب ( الفرقان 67 - 70 ) ، فقال : كانت هذه في الجاهلية ، وذلك أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعوا إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلتوالذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله إلا من تاب وآمن فهذه لأولئك .وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم .وقال زيد بن ثابت : لما نزلت التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ، عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة ، وأراد بالغليظة هذه الآية ، وباللينة آية الفرقان .وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تلك آية مكية وهذه مدنية نزلت ولم ينسخها شيء .والذي عليه الأكثرون ، وهو مذهب أهل السنة : أن قاتل المسلم عمدا توبته مقبولة لقوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ( طه - 82 ) وقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( النساء - 48 ) وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل ، كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم جاء يقال : لك توبة . ويروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما .وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر ، لأن الآية نزلت في قاتل وهو كافر ، وهو مقيس بن صبابة ، وقيل : إنه وعيد لمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله بسبب إيمانه ، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرا مخلدا في النار ، وقيل في قوله تعالى : ( فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) معناه : هي جزاؤه إن جازاه ، ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه ، فإنه وعد أن يغفر لمن يشاء .حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له : هل يخلف الله وعده؟ فقال : لا فقال : أليس قد قال الله تعالى ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) فقال له أبو عمرو بن العلاء : من العجمة أتيت يا أبا عثمان ! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفا وذما ، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفا وذما ، وأنشد :وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعديوالدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، قال أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن ، عبادة بن الصامت رضي الله عنه - وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة - وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " ، فبايعناه على ذلك .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيمافيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : ومن يقتل " من " شرط ، وجوابه فجزاؤه وسيأتي . واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها . وقالت فرقة : المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور .الثانية : ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به ، فقال ابن المنذر : أنكر ذلك مالك ، وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ . وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد : وأما شبه العمد فلا نعرفه . قال أبو عمر : أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد ؛ فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود . قال أبو عمر : وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين . وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد . وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين . قال ابن المنذر : وشبه العمد يعمل به عندنا . وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي ، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما .قلت : وهو الصحيح ؛ فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها ، فلا تستباح إلا بأمرين لا إشكال فيه ، وهذا فيه إشكال ؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ؛ فالضرب مقصود والقتل غير مقصود ، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية . وبمثل هذا جاءت السنة ؛ روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل . وروي أيضا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه . وهذا نص . وقال طاوس في الرجل يصاب في ماء الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرى ، من قاتله . وقال أحمد بن حنبل : العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه . وقال إسحاق : هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضا . فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس ؛ ذكره الدارقطنيمسألة : واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة ، فقال عطاء والشافعي : هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة . وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري ؛ وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد ، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف . وقيل : هي مربعة ربع بنات لبون ، وربع حقاق ، وربع جذاع ، وربع بنات مخاض . هذا قول النعمان ويعقوب ؛ وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي . وقيل : هي مخمسة : عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة ؛ هذا قول أبي ثور . وقيل : أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة ، وثلاثون بنات لبون . وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري . وقيل : أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها ، وثلاث وثلاثون حقة ، وثلاث وثلاثون جذعة ؛ وبه قال الشعبي والنخعي ، وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي .الثالثة : واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد ؛ فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور : هو عليه في ماله . وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : هو على العاقلة . قال ابن المنذر : قول الشعبي أصح ؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة .الرابعة : أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني ؛ وقد تقدم ذكرها في " البقرة " . وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة ؛ واختلفوا فيها في قتل العمد ؛ فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ . قال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى . وقال : إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى ، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ . وقد قيل : إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل ، فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله . وقيل تجب . ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله . وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي : لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى . قال ابن المنذر : وكذلك نقول ؛ لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل . وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع ، وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت .الخامسة : واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ ؛ فقالت طائفة : على كل واحد منهم الكفارة ؛ كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : عليهم كلهم كفارة واحدة ؛ هكذا قال أبو ثور ، وحكي ذلك عن الأوزاعي . وفرق الزهري بين العتق والصوم ؛ فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا : عليهم كلهم عتق رقبة ، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين .السادسة : روى النسائي : أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال : حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا . وروي عن عبد الله قال : قال رسول الله : أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء . وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأل سائل فقال : يا أبا العباس ، هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته : ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا . ثم قال ابن عباس : ويحك ! أنى له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار . وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني .السابعة : واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن سعد بن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس ، فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شيء . وروى النسائي عنه قال : سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة ؟ قال : لا . وقرأت عليه الآية التي في الفرقان : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر قال : هذه آية مكية نسختها آية مدنية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه . وروي عن زيد بن ثابت نحوه ، وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر ، وفي رواية بثمانية أشهر ؛ ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت . وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا : هذا مخصص عموم قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل ؛ فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا : التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا . وذهب جماعة من العلماء منهم . عبد الله بن عمر - وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس - إلى أن له توبة . روى يزيد بن هارون قال : أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال : لا ، إلا النار ؛ قال : فلما ذهب قال له جلساؤه : أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة ؛ قال : إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا . قال : فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك . وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح ، وإن هذه الآية مخصوصة ، ودليل التخصيص آيات وأخبار . وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة ؛ وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة ؛ فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر ؛ فقال بنو النجار : والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية ؛ فأعطوه مائة من الإبل ؛ ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا ، وجعل ينشد :قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتيوكنت إلى الأوثان أول راجعفقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أؤمنه في حل ولا حرم . وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة . وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين ، ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله : إن الحسنات يذهبن السيئات ، وقوله تعالى : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . والأخذ بالظاهرين تناقض فلا بد من التخصيص . ثم إن الجمع بين آية " الفرقان " وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض ، وذلك أن يحمل مطلق آية " النساء " على مقيد آية " الفرقان " فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب ؛ لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب . وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه : تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه . رواه الأئمة أخرجه الصحيحان . وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس . أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة . ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل ، ويقر بأنه قتل عمدا ، ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة ؛ فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ودخله التخصيص بما ذكرنا ، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا ، أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال : متعمدا معناه مستحلا لقتله ؛ فهذا أيضا يئول إلى الكفر إجماعا . وقالت جماعة : إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب ؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه . فإن قيل : إن قوله تعالى : فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه دليل على كفره ؛ لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان . قلنا : هذا وعيد ، والخلف في الوعيد كرم ؛ كما قال :وإني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعديوقد تقدم .جواب ثان : إن جازاه بذلك ؛ أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه . نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه . وفي هذين التأويلين دخل ، أما الأول - فقال القشيري : وفي هذا نظر ؛ لأن كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام ؛ فهو إذا جائز في الكلام . وأما الثاني : وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس : وهذا الوجه الغلط فيه بين ، وقد قال الله عز وجل : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا ولم يقل أحد : إن جازاهم ؛ وهو خطأ في العربية لأن بعده وغضب الله عليه وهو محمول على معنى جازاه .وجواب ثالث : فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي . وذكر هبة الله في كتاب " الناسخ والمنسوخ " أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة . وفي هذا الذي قاله نظر ؛ لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ ؛ قاله ابن عطية .قلت : هذا حسن ؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه . وقال النحاس في " معاني القرآن " له : القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب ، فإن تاب فقد بين أمره بقوله : وإني لغفار لمن تاب فهذا لا يخرج عنه ، والخلود لا يقتضي الدوام قال الله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد الآية . وقال تعالى : يحسب أن ماله أخلده وقال زهير :ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالدا إلا الجبال الرواسياوهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد ؛ فإن هذا يزول بزوال الدنيا . وكذلك العرب تقول : لأخلدن فلانا في السجن ؛ والسجن ينقطع ويفنى ، وكذلك المسجون . ومثله قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه وأبد أيامه . وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى . والحمد لله .
ex