سورة النساء : الآية 1

تفسير الآية 1 سورة النساء

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

يا أيها الناس خافوا الله والتزموا أوامره، واجتنبوا نواهيه؛ فهو الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام، وخلق منها زوجها وهي حواء، ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات، وراقبوا الله الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا، واحذروا أن تقطعوا أرحامكم. إن الله مراقب لجميع أحوالكم.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«يا أيها الناس» أي أهل مكة «اتقوا ربكم» أي عقابه بأن تطيعوه «الذي خلقكم من نفس واحدة» آدم «وخلق منها زوجها» حواء بالمد من ضلع من أضلاعه اليسرى «وبث» فرق ونشر «منهما» من آدم وحواء «رجالا كثيرا ونساء» كثيرة «واتقوا الله الذي تَسّاءلون» فيه إدغام التاء في الأصل في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي تتساءلون «به» فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض أسألك بالله وأنشدك بالله «و» اتقوا «الأرحام» أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفا على الضمير في به وكانوا يتناشدون بالرحم «إنَّ الله كان عليكم رقيبا» حافظا لأعمالكم فيجازيكم بها، أي لم يزل متصفا بذلك.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه، والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك. وبيَّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك، وأن الموجب لتقواه لأنه رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ورزقكم، ورباكم بنعمه العظيمة، التي من جملتها خلقكم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم بها بالسؤال بالله. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه. وكذلك الإخبار بأنه رقيب، أي: مطلع على العباد في حال حركاتهم وسكونهم، وسرهم وعلنهم، وجميع أحوالهم، مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته، وشدة الحياء منه، بلزوم تقواه. وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض، مع رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف بعضهم على بعض، ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به. وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عموما، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها. فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة، مفصلة لما أجمل منها، موضحة لما أبهم. وفي قوله: وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب علاقة.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

قال العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة . وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وزيد بن ثابت ، وروى من طريق عبد الله بن لهيعة ، عن أخيه عيسى ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حبس " .وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر ، حدثنا محمد بن بشر العبدي ، حدثنا مسعر بن كدام ، عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) الآية ، و ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) الآية ، و ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) و ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ) الآية ، و ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك .وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من النساء : لهن أحب إلي من الدنيا جميعا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) وقوله : ( وإن تك حسنة يضاعفها ) وقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقوله : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) وقوله : ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ) رواه ابن جرير : ثم روى من طريق صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) والثانية : ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) والثالثة : ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) .ثم ذكر قول ابن مسعود سواء ، يعني في الخمسة . الباقية .وروى الحاكم من طريق أبي نعيم ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن أبي مليكة ; سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء ، فإني قرأت القرآن وأنا صغير . ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .بسم الله الرحمن الرحيم( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 ) )يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام ( وخلق منها زوجها ) وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : خلقت المرأة من الرجل ، فجعل نهمتها في الرجل ، وخلق الرجل من الأرض ، فجعل نهمته في الأرض ، فاحبسوا نساءكم .وفي الحديث الصحيح : " إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج " .وقوله : ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) أي : وذرأ منهما ، أي : من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر .ثم قال تعالى : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) أي : واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال إبراهيم ومجاهد والحسن : ( الذي تساءلون به ) أي : كما يقال : أسألك بالله وبالرحم . وقال الضحاك : واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن بروها وصلوها ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع وغير واحد .وقرأ بعضهم : ( والأرحام ) بالخفض على العطف على الضمير في به ، أي : تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره .وقوله : ( إن الله كان عليكم رقيبا ) أي : هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال : ( والله على كل شيء شهيد ) [ البروج : 9 ] .وفي الحديث الصحيح : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ; ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [ واحد ] وأم واحدة; ليعطف بعضهم على بعض ، ويحننهم على ضعفائهم ، وقد ثبت في صحيح مسلم ، من حديث جرير بن عبد الله البجلي; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر - وهم مجتابو النمار - أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) حتى ختم الآية وقال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ واتقوا الله ] ) [ الحشر : 18 ] ثم حضهم على الصدقة فقال : " تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، صاع تمره . . . " وذكر تمام الحديث .وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم [ الذي خلقكم من نفس واحدة ] ) الآية .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

سورة النساءبسم الله الرّحمن الرّحيممقدّمةالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.وبعد: فإن خير ما اشتغل به العقلاء، هو خدمة كتاب الله- تعالى-، الذي أنزله- سبحانه- على قلب نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور.ولقد عنى المسلمون منذ فجر الإسلام عناية كبرى بشأن القرآن الكريم. وقد شملت هذه العناية جميع نواحيه، وأحاطت بكل ما يتصل به، وكان لها آثارها المباركة النافعة التي استفاد منها كل مظهر من مظاهر النشاط الفكرى والعملي عرفه الناس في حياتهم الروحية والمادية.وكان من أبرز مظاهر هذه العناية بشأن القرآن الكريم، الاشتغال بتفسيره وتأويله على قدر الطاقة البشرية.ولقد سبق لي أن كتبت تفسيرا وسيطا لسور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير لسورة النساء، حاولت فيه أن أكتب عما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من هدايات جامعة، وتشريعات حكيمة وتوجيهات رشيدة، وآداب سامية، من شأنها أن توصل المتمسكين بها إلى طريق السعادة في دنياهم وآخرتهم.وقبل أن أبدأ في تفسير آيات هذه السورة الكريمة بالتفصيل والتحليل. رأيت من الخير أن أسوق بين يديها تعريفا بها، يتناول زمان نزولها، وعدد آياتها، وسبب تسميتها بهذا الاسم، ومناسبتها لما قبلها، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.والله نسأل أن يوفقنا لخدمة كتابه، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.تمهيد بين يدي السورة1- سورة النساء هي الرابعة في ترتيب المصحف. فقد سبقتها سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.ويبلغ عدد آياتها خمسا وسبعين ومائة آية عند علماء الحجاز والبصريين، ويرى الكوفيون أن عدد آياتها ست وسبعون ومائة آية، لأنهم عدوا قوله- تعالى- أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.ويرى الشاميون أن عدد آياتها سبع وسبعون ومائة آية، لأنهم عدوا قوله- تعالى- وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً آية.كما أنهم وافقوا الكوفيين في أن قوله- تعالى- أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.أما علماء الحجاز والبصريون فيرون أن ما ذكره الكوفيون والشاميون إنما هو جزء من آية وليس آية كاملة.2- وسورة النساء من السور المدنية. وكان نزولها بعد سورة الممتحنة ويؤيد أنها مدنية ما رواه البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم» .ومن المتفق عليه عند العلماء أن دخوله صلى الله عليه وسلم على عائشة كان بعد الهجرة. وروى العوفى عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت.قال الآلوسى: «وزعم بعض الناس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ... نزلت بمكة في شأن مفتاح الكعبة. وتعقبه السيوطي بأن ذلك مستند واه، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات بمكة، من سورة طويلة، نزل معظمها بالمدينة، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني. ومن راجع أسباب نزولها عرف الرد عليه».والحق، أن الذي يقرأ سورة النساء من أولها إلى آخرها بتدبر وإمعان، يرى في أسلوبها وموضوعاتها سمات القرآن المدني. فهي زاخرة بالحديث عن الأحكام الشرعية: من عبادات ومعاملات وحدود. وعن علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم. وعن أحوال أهل الكتاب والمنافقين، وعن الجهاد في سبيل الله. إلى غير ذلك من الموضوعات التي يكثر ورودها في القرآن المدني.ومن هنا قال القرطبي: «ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها».3- سورة النساء سميت بهذا الاسم لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.وكثيرا ما يطلق عليها اسم «سورة النساء الكبرى» تمييزا لها عن سورة أخرى عرضت لبعض شئون النساء وهي «سورة الطلاق» التي كثيرا ما يطلق عليها اسم «سورة النساء الصغرى» .4- ومن وجوه المناسبة بين هذه السورة وبين سورة آل عمران التي قبلها: أن سورة آل عمران اختتمت بالأمر بالتقوى في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وسورة النساء افتتحت بالأمر بالتقوى. قال- تعالى-:يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.قال الآلوسى: «وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور. وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر: تشابه الأطراف. وقوم يسمونه بالتسبيغ. وذلك كقول ليلى الأخيلية:إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاهاشفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة رواهارواها فأرواها بشرب سجالها ... دماء رجال حيث نال حشاهاومنها أن في سورة آل عمران تفصيلا لغزوة أحد. وفي سورة النساء حديث موجز عنها في قوله- تعالى-: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا.وكما في قوله- تعالى-: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ.ومنها: أن في كلتا السورتين محاجة لأهل الكتاب، وبيانا لأحوال المنافقين، وتفصيلا لأحكام القتال.ومن أمعن نظره- كما يقول الآلوسى- وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها. فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك» .5- ومن الآثار التي وردت في فضل سورة النساء، ما رواه قتادة عن ابن عباس أنه قال:ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.أولهن: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ.والثانية: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً.والثالثة: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.والرابعة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها.والخامسة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.والسادسة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.والسابعة: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ.والثامنة: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.وكأن ابن عباس- رضى الله عنهما- قد نظر إلى ما تدل عليه هذه الآيات الكريمة من فضل الله على عباده. ورحمة بهم، وفتح لباب التوبة والمغفرة في وجوههم، وإلا فإن القرآن كله بكل سوره وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.6- هذا، وسورة النساء تعتبر أطول سورة مدنية بعد سورة البقرة. وإنك لتقرؤها بتدبر وتفهم فتراها قد اشتملت على مقاصد عالية، وآداب سامية. وتوجيهات حكيمة، وتشريعات جليلة.تراها تنظم المجتمع الإسلامى تنظيمة دقيقا قويما، يؤدى اتباعه إلى سعادة المجتمع واستقراره داخليا وخارجيا.فأنت تراها في مطلعها تحض الناس على تقوى الله والخشية منه، وتبين الارتباط الإنسانى الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعا.قال- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد، فإن هذا الاتحاد يقتضى منهم أن يكونوا متراحمين متعاطفين، ومن أبرز مظاهر التراحم، الأخذ بيد الضعفاء ومعاونتهم في كل ما يحتاجون إليه.لذا نجد السورة الكريمة بعد أن تفتتح بأمر الناس بتقوى الله، تتبع ذلك بالأمر بالإحسان إلى اليتامى- الذين هم أوضح الضعفاء مظهرا- في خمس آيات في الربع الأول منها.وهذه الآيات هي قوله- تعالى-: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.وقوله- تعالى-: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.وقوله- تعالى-: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.وقوله- تعالى-: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ.وقوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً.ولم تكتف السورة الكريمة في أوائلها بالحض على الإحسان إلى اليتامى، بل حضت- أيضا- على الإحسان إلى النساء، وإعطائهن حقوقهن كاملة.ثم تراها بعد ذلك في الربع الثاني منها تتحدث عن التوزيع المالى للأسرة عند ما يموت واحد منها، وتضع لهذا التوزيع أحكم الأسس وأعدلها وأضبطها وتبين أن هذا التوزيع حد من حدود الله التي يجب التزامها وعدم مخالفتها.قال- تعالى-: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ.ثم تحدثت السورة الكريمة عن حكم النسوة اللاتي يأتين الفاحشة، وعن التوبة التي يقبلها الله- تعالى-، والتوبة التي لا يقبلها. ووجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن أخذ شيء من حقوق النساء، وأمرتهم بحسن معاشرتهن، كما نهتهم عن نكاح أنواع معينة منهن، لأن نكاحهن يتنافى مع شريعة الإسلام وآدابه.قال- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا.ثم تراها في الربع الثالث منها تتحدث عن المحصنات من النساء وعن حقوقهن، وبينت للناس أن الله- تعالى- ما شرع هذه الأحكام القويمة إلا لمصلحتهم ومنفعتهم.استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المعنى فتقول: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.ثم صرحت السورة الكريمة بأن للرجال القوامة على النساء، وذكرت ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجته، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان، ودعت أهل الخير إلى الإصلاح بين الزوجين إذا ما نشب بينهما نزاع أو شقاق.قال- تعالى-: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وبين أفراد الأسرة، انتقلت في الربع الرابع منها إلى بيان العلاقة بين العبد وخالقه، وأنها يجب أن تقوم على إخلاص العبادة له- سبحانه- كما يجب على المسلم أن يجعل علاقته مع والديه ومع أقاربه ومع اليتامى والمساكين. وغيرهم، قائمة على الإحسان وعلى التعاطف والتراحم.ثم توعدت السورة الكريمة من يشرك بالله، ويخالف أوامره بالعذاب الأليم. وبينت أن الكافرين سيندمون أشد الندم على كفرهم يوم القيامة ولكن ندمهم لن ينفعهم، لأنه جاء بعد فوات الأوان.قال- تعالى- يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ، لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.ثم شنت السورة الكريمة حملة عنيفة على اليهود الذين كانوا يجاورون المؤمنين بالمدينة، والذين كانوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا والذين كانوا ينطقون بالباطل ويشهدون الزور عن تعمد وإصرار، وقد بينت السورة الكريمة أن حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دفعهم إلى افتراء الكذب على الله- تعالى- وأنهم قد طردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وعنادهم وإيذائهم لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم.قال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً.ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك في الربع الخامس منها: الأساس الذي يقوم عليه الحكم في الإسلام، فذكرت أن العدل والأمانة هما الدعامتان الراسختان اللتان يقوم عليهما الحكم في الإسلام. ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بطاعة الله وطاعة رسوله وأولى الأمر منهم، كما أمرتهم بأن يردوا كل تنازع يحصل بينهم إلى ما يقضى به كتاب الله وسنة رسوله، لأن التحاكم إلى غيرهما لا يليق بمؤمن.ثم أخذت السورة الكريمة في توبيخ المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون ومع ذلك يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بزجرهم وبالإعراض عنهم، وأخبرته بأنهم لا إيمان لهم ما داموا لم يرتضوا حكمه.قال- تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.وبعد هذا التهديد والتوبيخ للمنافقين، ساقت السورة الكريمة البشارات السارة للمؤمنين الصادقين فقالت: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً.ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الجهاد في سبيل الله، لأن الحق يجب أن يكون هو السائد في الأرض ولأن المؤمن لا يليق به أن يستسلم للأعداء، بل عليه أن يجاهدهم وأن يغلظ عليهم حتى تكون كلمة الله هي العليا.لذا نجد السورة الكريمة توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه بالحذر وأخذ الأهبة لقتال أعدائهم، وتحرضهم على هذا القتال للأعداء، بأقوى ألوان التحريض وأحكمها.فأنت تراها في الربع السادس منها تأمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، وتبشر هؤلاء المقاتلين بأنهم لن يصيبهم إلا إحدى الحسنيين، وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.وتستبعد أن يقصر المؤمنون في أداء هذا الواجب، لأن تقصيرهم يتنافى مع إيمانهم، وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ وتبين لهم أن قتالهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الله، وقتال أعدائهم لهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الطاغوت.الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.وتضرب لهم الأمثال بسوء عاقبة الذين جبنوا عن القتال حين كتب عليهم وقالوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.وتخبرهم بأن الموت سيدرك المقدام كما يدرك الجبان فعليهم أن يكونوا من الذين يقدمون على الموت بدون جبن أو وجل مادام الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقصها.قال- تعالى- أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.وهكذا تحرض السورة الكريمة المؤمنين على القتال في سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها وأنفعها.ثم عادت السورة الكريمة إلى تحذير المؤمنين من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والذين يعوقون أهل الحق عن قتال أعدائهم، وأمرت النبي- صلى الله عليه وسلم- بأن يمضى هو ومن معه في طريق القتال من أجل إعلاء كلمة الله دون أن يلتفت إلى هؤلاء المنافقين، لأنهم لا يريدون بهم إلا الشر.قال- تعالى-: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا.ثم واصلت السورة في الربع السابع منها حديثها عن المنافقين، فذكرت ما ينبغي أن يعاملوا به، وكشفت عن طبائعهم الذميمة، وأخلاقهم القبيحة، ونهت المؤمنين عن اتخاذهم أولياء أو نصراء، وأمرتهم أن يضيقوا عليهم ويقتلوهم إذا ما استمروا في نفاقهم وشقاقهم وارتكاسهم في الفتنة.قال- تعالى-: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً، فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.ثم تحدثت السورة عن حكم القتل الخطأ. وتوعدت من يقتل مؤمنا متعمدا بغضب الله عليه، ولعنه له، وإنزال العذاب العظيم به.ثم أمرت المؤمنين بأن يجعلوا قتالهم من أجل إعلاء كلمة الله، لا من أجل المغانم والأسلاب، وألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم. وبشرت المجاهدين في سبيل الله بما أعده الله لهم من درجات عالية يتميزون بها عن غيرهم من القاعدين، وتوعدت الذين يرضون الذلة لأنفسهم بسوء المصير، وذلك لأن الحق لا تعلو رايته في الأرض إلا إذا كان أتباعه أقوياء. يأبون الذل والخضوع لغير سلطان الله- تعالى-.قال- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.ثم بشرت السورة الكريمة في مطلع الربع الثامن منها الذين يهاجرون في سبيل الله، بالخير الوفير والأجر الجزيل فقالت.وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.ثم أرشدت المؤمنين إلى الطريقة التي يؤدون بها فريضة الصلاة في حال جهادهم، لأن الصلاة فريضة محكمة لا يسقطها الجهاد، بل هي تقوى دوافعه، وتحسن ثماره ونتائجه.كما أمرتهم بالإكثار من ذكر الله في كل أحوالهم، وبمواصلة جهاد أعدائهم بدون كلل أو ملل حتى تكون كلمة الله هي العليا.قال- تعالى-: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ.ثم بينت السورة الكريمة أن الله- تعالى- قد أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم لكي يحكم بين الناس بالعدل الذي أراه الله إياه، ونهت الأمة في شخصه صلى الله عليه وسلم عن الخيانة والميل مع الهوى ووبخت المنافقين الذين «يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، كما وبخت الذين يدافعون عنهم أو يسيرون في ركابهم. وذكرت جانبا من مظاهر عدله- سبحانه-، ورحمته الشاملة.أما عدله فمن مظاهره أنه جعل الجزاء من جنس العمل وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ.وأما شمول رحمته فمن مظاهرها أنه- سبحانه- فتح باب التوبة لعباده وأكرمهم بقبولها متى صدقوا فيها: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.ثم بينت السورة الكريمة في مطلع الربع التاسع منها أن الاستخفاء بالأقوال والأفعال عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثره لا خير فيه فقالت:لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.ثم تحدثت عن الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوعدتهم بسوء المصير، ووبختهم على جهالاتهم وضلالاتهم وسيرهم في ركاب الشيطان الذي يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً.ثم بينت أن الله- تعالى- لا تنفع عنده الأمانى والأنساب، وإنما الذي ينفع عنده هو الإيمان والعمل الصالح.قال- تعالى-: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً.ثم تحدثت السورة الكريمة عن بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء وأمرت بالإصلاح بين الزوجين، وبينت أن العدل التام بين النساء من كل الوجوه غير مستطاع، فعلى الرجال أن يكونوا متوسطين في حبهم وبغضهم، وعليهم كذلك أن يعاشروا النساء بالمعروف وأن يفارقوهن كذلك بالمعروف وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً.ثم وجهت السورة الكريمة في الربع العاشر منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يلتزموا الحق في كل شئونهم، وأن يجهروا به ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، لأن العدالة المطلقة التي أتى بها الإسلام لا تعرف التفرقة بين الناس.ثم بينت السورة الكريمة حقيقة النفاق والمنافقين وكررت تحذيرها للمؤمنين من شرورهم.وإن أدق وصف لهؤلاء المنافقين هو قوله- تعالى- في شأنهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ، وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.وقد توعدهم الله بسبب نفاقهم وخداعهم بأشد ألوان العذاب فقال- سبحانه-:إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.ثم حكت السورة الكريمة في الربع الحادي عشر منها ما أدب الله به عباده، وما أرشدهم إليه من خلق كريم وهو منع الجهر بالسوء من القول، ولكنه- سبحانه- رخص للمظلوم أن يتكلم في شأن ظالمه بالكلام الحق. لأنه- تعالى- لا تخفى عليه خافية. قال- تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.ثم تحدثت عن بعض رذائل اليهود. وعن العقوبات التي عاقبهم الله بها بسبب ظلمهم وفسوقهم.قال- تعالى-: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.أما في الربع الثاني عشر والأخير منها فقد تحدثت السورة الكريمة عن وحدة الرسالة الإلهية.وبينت أن الله- تعالى- قد أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى النبيين من قبله، وأن حكمته- سبحانه- قد اقتضت أن يرسل رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.ثم وجهت في أواخرها نداء عاما إلى الناس تأمرهم فيه بالإيمان بما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم. كما وجهت نداء آخر إلى أهل الكتاب تنهاهم فيه عن السير في طريق الضلالة، وعن الأقوال الباطلة التي قالوها في شأن عيسى، فإن عيسى كغيره من البشر من عباد الله- تعالى-، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله- تعالى-:ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً.وكما تحدثت السورة الكريمة في أوائلها عن بعض أحكام الأسرة، فقد اختتمت بالحديث عن ذلك، لكي تبين للناس أن الأسرة هي عماد المجتمع، وهي أساسه الذي لا صلاح له إلا بصلاحها.قال- تعالى-: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ، وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.هذا عرض إجمالى لبعض المقاصد السامية، والآداب العالية، والتشريعات الحكيمة، والتوجيهات القويمة التي اشتملت عليها السورة الكريمة.ومن هذا العرض نرى أن سورة النساء- كما يقول بعض العلماء-: «قد عالجت أحوال المسلمين فيما يتعلق بتنظيم شئونهم الداخلية، عن طريق إصلاح الأسرة وإصلاح المال في ظل تشريع قوى عادل، مبنى على مراعاة مقتضيات الطبيعة الإنسانية، مجرد من تحكيم الأهواء والشهوات.وذلك إنما يكون إذا كان صادرا عن حكيم خبير بنزعات النفوس واتجاهاتها وميولها.كما عالجت أحوالهم فيما يختص بحفظ كيانهم الخارجي، عن طريق التشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها السورة الكريمة، والتي من شأنها أن تحفظ للأمة كيانها وشخصيتها متى تمسكت بها، وأن تجعلها قادرة على دفع الشر الذي يطرأ عليها من أعدائها.بل إن السورة الكريمة لم تقف عند حد التنبيه على عناصر المقاومة المادية، وإنما نبهت على ما يجب أن تحفظ به عقيدة الأمة ومبادئها من التأثر بما يلقى في شأنها من الشكوك والشبه. وفي هذا إيحاء يجب على المسلمين أن يلتفتوا إليه، وهو أن يحتفظوا بمبادئهم كما يحتفظون بأوطانهم.وأن يحصنوا أنفسهم من شر حرب أشد خطرا، وأبعد في النفوس أثرا من حرب السلاح المادي: تلك هي حرب التحويل من مبدأ إلى مبدأ، ومن دين إلى دين، مع البقاء في الأوطان والإقامة في الديار والأموال.ألا وإن شخصية الأمة ليتطلب بقاؤها الاحتفاظ بالجانبين: جانب الوطن والسلطان.وجانب العقيدة والإيمان. وعلى هذا درج سلفنا الصالح فعاشوا في أوطانهم آمنين. وبمبادئهم وعقائدهم متمسكين».وبعد: فهذا تمهيد بين يدي تفسير سورة النساء. تعرضنا خلاله لعدد آياتها. ولزمان نزولها.ولسبب تسميتها بهذا الاسم. ولوجه المناسبة بينها وبين سابقتها. ولجانب من فضائلها.وللمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.ولعلنا بذلك- أخى القارئ- نكون قد قدمنا لك تعريفا لهذه السورة يعينك على تفهم أسرارها، ومقاصدها. وتوجيهاتها قبل أن نبدأ في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل.والله نسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يجنبنا فتنة القول والعمل. وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا ونوايانا خالصة لوجهه الكريم.وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.افتتحت السورة الكريمة بهذا النداء الشامل لجميع المكلفين من وقت نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وذلك لأن لفظ الناس لا يختص بقبيل دون قبيل ، ولا بقوم دون قوم ، وقد دخلته الألف واللام المفيدة للاستغراق؛ ولأن ما في مضمون هذا النداء من إنذار وتبشير وأمر بمراقبة الله وخشيته ، يتناول جميع المكلفين لا أهل مكة وحدهم كما ذكره بعضهم؛ لأن تخصيص قوله - تعالى - ( ياأيها الناس ) بأهل مكة تخصيص بغير مخصص .والمراد بالنفس الواحدة هنا : آدم - عليه السلام - . وقد جاء الوصف وهو واحدة بالتأنيث باعتبار لفظ النفس فإنها مؤنثة .ومن فى قوله ( مِنْهَا ) للتبعيض . والضمير المؤنث " ها " يعود إلى النفس الواحدة .والمراد بقوله - تعالى - : ( زَوْجَهَا ) حواء؛ فإنها أخرجت من آدم كما يقتضيه ظاهر قوله - تعالى - ( مِنْهَا ) .قال الفخر الرازى ما ملخصه : " المراد من هذا الزوج هو حواء . وفى كون حواء مخلوقة من آدم قولان :الأول : وهو الذي عليه الأكثرون : أنه لما خلق الله - تعالى - آدم ألقى عليه النوم ، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه ، فلما استيقظ رآها ومال إليها وألفها ، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه . واحتجوا عليه بقول النبى صلى الله عليه وسلم : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها "والقول الثانى : وهو اختيار أبى مسلم الأصفهانى : أن المراد من قوله ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) أى من جنسها . وهو كقوله - تعالى - ( والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ) وكقوله ( إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ) وقوله ( لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ) قال القاضى : والقول الأول أقوى ، لكى يصح قوله : ( خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ، إذ لو كانت حواء مخلوقة إبتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة .وقد تضمن هذا النداء لجميع المكلفين تنبيهم إلى أمرين :أولهما : وحدة الاعتقاد بأن ربهم جميعا واحد لا شريك له . فهو الذى خلقهم وهو الذى رزقهم ، وهو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم ، وهو الذى أوجد أبيضهم وأسودهم ، وعربيهم وأعجميهم .وثانيهما : وحدة النوع والتكوين ، إذ الناس جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم قد انحدروا عن أصل واحد وهو آدم - عليه السلام - .فيجب أن يشعر الجميع بفضل الله عليهم . وأن يخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان ، وأن يوقنوا بأنه لا فضل لجنس على جنس ، ولا للون على لون إلا بمقدار حسن صلتهم بربهم وما لكهم ومدبر أمورهم .والمعنى : يا أيها الناس اتقوا ربكم بأن تطيعوه فلا تعصوه ، وبأن تشكروه فلا تكفروه ، فهو وحده الذى أوجدكم من نفس واحدة هى نفس أبيكم آدم ، وذلك من أظهر الأدلة على كمال قدرته - سبحانه ، ومن أقوى الدواعى إلى اتقاء موجبات نقمته ، ومن أشد المقتضيات التى تحملكم على التاطف والتراحم والتعاون فيما بينكم ، إذ أنتم جميعا قد أوجدكم - سبحانه - من نفس واحدة .وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : الذى يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته ، أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويحث عليها فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذى ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟قلت : لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة . ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شىء ، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم ، فحقهم أن يتقوه فى كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها . أو أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهى أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله فقيل : اتقوا ربكم الذى وصل بينكم؛ حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه وهذا المعنى مطابق لمعانى السورة " .وقوله : ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) معطوف على قوله ( خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) . أو معطوفة على محذوف والتقدير : خلقكم من نفس واحدة ابتدأها وخلق منها زوجها .ثم بين - سبحانه - ما ترتب على هذا الازدواج من تناسل فقال : ( وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ) .والبث معناه : النشر والتفريق . يقال : بث الخيل فى الغارة ، أى فرقها ونشرها . ويقال : يثثت البسط إذا نشرتها . قال - تعالى - ( وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ) أى منشورة .والمعنى : ونشر وفرق من تلك النفس الواحدة وزوجها على وجه التوالد والتناسل ، رجالا كثيرا ونساء كثيرة .والتعبير بالبث يفيد أن هؤلاء الذين توالدوا وتناسلوا عن تلك النفس وزوجها ، قد تكاثروا وانتشروا فى أقطار الأرض على اختلاف ألوانهم ولغاتهم ، وأن من الواجب عليهم مهما تباعدت ديارهم ، واختلفت ألسنتهم وأشكالهم أن يدركوا أنهم جميعا ينتمون إلى أصل واحد ، وهذا يقتضى تراحمهم وتعاطفهم فيما بينهم . وقوله ( كَثِيراً ) صفة لقوله ( رِجَالاً ) وهو صفة مؤكدة لما إفاده التنكير من معنى الكثرة . وجاء الوصف بصيغة الإِفراد ، لأن ( كَثِيراً ) وإن كان مفردا لفظا إلا أنه دال على معنى الجمع . واستغنى عن وصف النساء بالكثرة ، اكتفاء بوصف الرجال بذلك ، ولأن الفعل ( وَبَثَّ ) يقضى الكثرة والانتشار .وقال الفخر الرازى : خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء ، لأن شهرة الرجال أتم ، فكانت كثرتهم أظهر ، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة . وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج البروز . واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول " .وقوله : ( واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام ) تكرير للأمر بالتقوى لتربية المهابة فى النفس وتذكير ببعض آخر من الأمور الموجبة لخشية الله وامتثال أوامره .وقوله ( تَسَآءَلُونَ ) أصلها تتساءلون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا . وهى قراءة عصام وحمزة الكسائى .وقرأ الباقون " تساءلون " بالتشديد بإدغام تاء التفاعل فى السينه لتقاربهما فى الهمس . والأرحام : جمع رحم وهى القرابة . مشتقة من الرحمة ، لأن ذوى القرابة من شأنهم أن يتراحموا ويعطف بعضهم على بعض .وكلمة ( والأرحام ) قرأها الجمهور بالنصب عطفا على اسم الله تعالى .والمعنى؛ واتقوا الله الذى يسأل بعضكم بعضا به ، بأن يقول له على سبيل الاستعطاف : أسألك بالله أن تفعل كذا ، أو أن تترك كذا . واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإِحسان ، فإن قطيعتها وعدم صلتها مما يجب أن يتقى ويبعد عنه ، وإنما الذى يجب أن يفعل هو صلتها وبرها .وقرأها حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور فى ( به ) . أى : اتقوا الله الذى تساءلون به وبالأرحام بأن يقول بعضكم لبعض مستعطفا أسألك بالله وبالرحم أن تفعل كذا .وقد كان من عادة العرب أن يقرنوا الأرحام بالله تعالى - فى المناشدة والسؤال فيقولون : اسألك بالله وبالرحم .ولم يرتض كثير من النحويين هذه القراءة من حمزة ، وقالوا : إنها تخالف القواعد النحوية التى تقول : إن عطف الاسم الظاهر على الضمير المجرور المتصل بدون إعادة الجار لا يصح ، لأن الضمير المجرور المتصل بمنزلة الحرف ، والحرف لا يصح عطف الاسم الظاهر عليه ، ولأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها ، وكما أنه لا يجوز أن يعطف على بعض الكلمة فكذلك لا يجوز أن يعطف عليه . إلى غير ذلك مما قالوه فى تضعيف هذه القراءة . وقد دافع كثير من المفسرين عن هذه القراءة التى قرأها حمزة . وأنكروا على النحويين تشنيعهم عليه .ومما قاله القرطبى فى دفاعه عن صحة هذه القراءة : ومثل هذا الكلام - أى من النحويين - مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التى قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شىء عن النبى صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبى صلى الله عليه وسلم واسقبح ما قرأ به .وهذا مقام محذور ، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ، فإن العربية تتلقى من النبى صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد فى فصاحته .ثم قال : والكوفى يجيز عطف الظاهر على الضمير المجرور ولا يمنع منه ، ومنه قولهم :فاذهب فما بك والأيام من عجبومما قاله الفخر الرازى فى ذلك : واعلم أن هذه الوجوه - أى التى احتج بها النحويون في تضعيف قراءة حمزة - ليست وجوها قوية فى رفع الروايات الواردة فى اللغات؛ وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة ، ولم يأت بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، والقياس يتضاءل عند سماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التى هى أوهن من بيت العنكبوت .وأيضا فلهذه القراءة وجهان :أحدهما : أنها على تقدير تكرير الجار . كأنه قيل : تساءلون به وبالأرحام .وثانيهما : أنه ورد ذلك فى الشعر ومنه :نعلق فى مثل السوارى سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفائفثم قال : والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بمثل هذه الأبيات المجهولة ، ولا يستحسنوا إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف فى علم القرآن " .هذا ، وهناك قراءة بالرفع . قال الآلوسى : وقرأ ابن زيد ( والأرحام ) بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر . أى والأرحام كذلك أى مما يتقى لقرينه ( واتقوا ) . أو مما يتساءل به لقرينة ( تَسَآءَلُونَ ) .ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يحمل العقلاء على المبالغة فى تقوى الله ، وفى صلة الرحم فقال - تعالى : ( إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) . أى حافظا يحصى عليكم كل شىء . من رقبه إذا حفظه .أو مطلعا على جميع أحوالكم وأعمالكم ، ومنه المرقب للمكان العالى الذى يشرف منه الرقيب ليطلع على ما دونه .وقد أكد - سبحانه - رقابته على خلقه ، واطلاعه على جميع أحوالهم بأوثق المؤكدات . فقد أكد - سبحانه - الجملة الكريمة بإن ، وبتكرار لفظ الجلالة التى يبعث فى النفوس كل معانى الخشية والعبودية له ، وبالتعبير بكان الدالة على الدوام والاستمرار ، وبذكر الفوقية التى يدل عليها لفظ ( عَلَيْكُمْ ) إذ هو يفيد معنى الاطلاع الدائم مع السيطرة والقهر ، وبالإِتيان بصيغة المبالغة وهى قوله : ( رَقِيباً ) أى شديد المراقبة لجميع أقوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها وسيحاسبكم عليها يوم القيامةوقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة : وجوب مراقبته - سبحانه - وخشيته وإخلاص العبادة له ، لأنه هو الذى أوجدهم من نفس واحدة ، وهو الذى أوجد من هذه النفس الموحدة زوجها ، وهو الذى أوجد منها عن طريق التناسل الذكور والإِناث الذين يملؤون أقطار الأرض على اختلاف صفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، وهو الذى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم ، بل هو مطلع عليهم وسيحاسبهم على أعمالهم يوم الدين ، ومن كان كذلك فمن حقه أن يتقى ويخضى ويطاع ولا يعصى .كما أخذوا منها جواز المسألة بالله - تعالى - لأنه - سبحانه - قد أقرهم على هذا التساؤل؛ لكونهم يعتقدون عظمته وقدرته .وقد ورد فى هذا الباب أحاديث متعددة منها ما أخرجه الإِمام أحمد وأبو داود والنسائى وابن حبان عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من استعاذ بالله فأعيذه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه . ومن أسدى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه " .نعم من أداه التساؤل باسمه - تعالى - إلى التساهل فى شأنه ، وجعله عرضة لعدم إجلاله ، فإنه يكون محظورا قطعا . وعليه يحمل ما ورد من أحاديث تصرح بلعن من سأل بوجه الله . ومنها ما رواه الطبرانى عن أبى موسى الأشعرى مرفوعا : ملعون من سأل بوجه الله . وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجراً . أى ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق .كما أخذوا منها أيضا وجوب صلة الرحم ، فقد جعل - سبحانه - الإِحسان إلى الآباء وإلى الأقارب فى المنزلتين الثانية والثالثة بعد الأمر بعبادته فقال : ( واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين ) ومن الأحاديث التى وردت فى وجوب صلة الرحم ما رواه البخارى عن أبى هريرة قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سره أن يبسط له فى رزقه ، وأن ينسأ له فى أجله ، فليصل رحمه "وأخرج الإِمام مسلم فى صحيحه عن عائشة - رضى الله عنها - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الرحم مغلفة بالعرش . تقول : من وصلنى وصله الله ، ومن قطعنى قطعه الله "وأخرج البخارى عن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس الواصل بالمكافىء "ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها .إلى غير ذلك من الأحاديث التى وردت فى الترغيب فى صلة الرحم والترهيب من قطيعتها .

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) يعني : آدم عليه السلام ، ( وخلق منها زوجها ) يعني : حواء ، ( وبث منهما ) نشر وأظهر ، ( رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به ) أي : تتساءلون به ، وقرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين ، كقوله تعالى : ( ولا تعاونوا ) ، ( والأرحام ) قراءة العامة بالنصب ، أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزة بالخفض ، أي : به وبالأرحام كما يقال : سألتك بالله والأرحام ، والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لا تكاد =تنسق بظاهر على مكنى ، إلا أن تعيد الخافض فتقول : مررت به وبزيد ، إلا أنه جائز مع قلته ، ( إن الله كان عليكم رقيبا ) أي : حافظا .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

سورة النساءوهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها على ما يأتي بيانه . قال النقاش : وقيل : نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : يا أيها الناس حيث وقع إنما هو مكي ، وقاله علقمة وغيره ، فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني . وقال النحاس : هذه السورة مكية .قلت : والصحيح الأول ، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ تعني قد بنى بها . ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة . ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها . وأما من قال : إن قوله : يا أيها الناس مكي حيث وقع فليس بصحيح ؛ فإن البقرة مدنية وفيها قوله ، يا أيها الناس في موضعين ، وقد تقدم . والله أعلمقوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبافيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم قد مضى في " البقرة " اشتقاق الناس ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث ، فلا معنى للإعادة . وفي الآية تنبيه على الصانع . وقال : " واحدة " على تأنيث لفظ النفس . ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر . ويجوز في الكلام " من نفس واحد " وهذا على مراعاة المعنى ؛ إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام ، قاله مجاهد وقتادة . وهي قراءة ابن أبي عبلة " واحد " بغير هاء . وبث : فرق ونشر في الأرض ؛ ومنه وزرابي مبثوثة وقد تقدم في " البقرة " .ومنهما يعني آدم وحواء . قال مجاهد : خلقت حواء من قصيرى آدم . وفي الحديث : خلقت المرأة من ضلع عوجاء ، وقد مضى في البقرة . رجالا كثيرا ونساء حصر ذريتهما في نوعين ؛ فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع ، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما ، على ما تقدم ذكره في " البقرة " من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها .الثانية : قوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين . والذي في موضع نصب على النعت . والأرحام معطوف . أي اتقوا الله أن تعصوه ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ أهل المدينة " تساءلون " بإدغام التاء في السين . وأهل الكوفة بحذف التاء ، لاجتماع تاءين ، وتخفيف السين ؛ لأن المعنى يعرف ؛ وهو كقوله : ولا تعاونوا على الإثم وتنزل وشبهه .وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة " الأرحام " بالخفض .وقد تكلم النحويون في ذلك . فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لحن لا تحل القراءة به . وأما الكوفيون فقالوا : هو قبيح ؛ ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه ؛ قال النحاس : فيما علمت .وقال سيبويه : لم يعطف على المضمر المخفوض ؛ لأنه بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه . وقال جماعة : هو معطوف على المكني ؛ فإنهم كانوا يتساءلون بها ، يقول الرجل : سألتك بالله والرحم ؛ هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد ، وهو الصحيح في المسألة ، على ما يأتي . وضعفه أقوام منهم الزجاج ، وقالوا : يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض ؛ كقوله فخسفنا به وبداره الأرض ويقبح " مررت به وزيد " . قال الزجاج : عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه ؛ فكما لا يجوز " مررت بزيد وك " كذلك لا يجوز " مررت بك وزيد " . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر ؛ كما قال :فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجبعطف " الأيام " على الكاف في " بك " بغير الباء للضرورة . وكذلك قول الآخر :نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانفعطف " الكعب " على الضمير في " بينها " ضرورة . وقال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس . وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ ما أنتم بمصرخي و اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام لأخذت نعلي ومضيت . قال الزجاج : قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحلفوا بآبائكم فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم . ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم ، وأنه خاص لله تعالى . قال النحاس : وقول بعضهم " والأرحام " قسم خطأ من المعنى والإعراب ؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب . وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة ، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم ؛ ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال : يا أيها الناس اتقوا ربكم ، إلى : والأرحام ؛ ثم قال : تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره . . . وذكر الحديث . فمعنى هذا على النصب ؛ لأنه حضهم على صلة أرحامهم . وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت . فهذا يرد قول من قال : المعنى أسألك بالله وبالرحم . وقد قال أبو إسحاق : معنى تساءلون به يعني تطلبون حقوقكم به . ولا معنى للخفض أيضا مع هذا .قلت : هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة " والأرحام " بالخفض ، واختاره ابن عطية . ورده الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري ، واختار العطف فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستقبح ما قرأ به ، وهذا مقام محذور ، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ؛ فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يشك أحد في فصاحته . وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر ؛ لأنه عليه السلام قال لأبي العشراء : وأبيك لو طعنت في خاصرته . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه . قال القشيري : وقد قيل هذا إقسام بالرحم ، أي اتقوا الله وحق الرحم ؛ كما تقول : افعل كذا وحق أبيك . وقد جاء في التنزيل : والنجم ، والطور ، والتين ، لعمرك وهذا تكلفقلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون " والأرحام " من هذا القبيل ، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه . والله أعلم .ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء ، فلا يبعد أن يكون قسما . والعرب تقسم بالرحم . ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله :مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابهافجر وإن لم يتقدم باء . قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك : والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه . ومنه قوله :آبك أيه بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشورومنه :فاذهب فما بك والأيام من عجبوقول الآخر :وما بينها والكعب غوط نفانفومنه :فحسبك والضحاك سيف مهندوقول الآخر :وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعداوقول الآخر :ما إن بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعاوقول الآخر :أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواهاف " سواها " مجرور الموضع بفي . وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين فعطف على الكاف والميم . وقرأ عبد الله بن يزيد " والأرحام " بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدر ، تقديره : والأرحام أهل أن توصل . ويحتمل أن يكون إغراء ؛ لأن من العرب من يرفع المغرى . وأنشد الفراء :إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاحلجديرون باللقاء إذا قا ل أخو النجدة السلاح السلاحوقد قيل : إن " والأرحام " بالنصب عطف على موضع به ؛ لأن موضعه نصب ، ومنه قوله :فلسنا بالجبال ولا الحديداوكانوا يقولون : أنشدك بالله والرحم . والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا .الثالثة : اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي ؟ نعم صلي أمك فأمرها بصلتها وهي كافرة .فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر ، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى ، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم ؛ وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ملك ذا رحم محرم فهو حر . وهو قول أكثر أهل العلم . روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود ، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري ، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق . ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال : الأول - أنه مخصوص بالآباء والأجداد .الثاني - الجناحان يعني الإخوة .الثالث - كقول أبي حنيفة .وقال الشافعي : لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته ، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته .والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي . وأحسن طرقه رواية النسائي له ؛ رواه من حديث ضمرة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه . وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه ؛ غير أن النسائي قال في آخره : هذا حديث منكر . وقال غيره : تفرد به ضمرة . وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح المحدثين . وضمرة عدل ثقة ، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره . والله أعلم .الرابعة : واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة . فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث . وقال شريك القاضي بعتقهم . وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه ؛ واحتجوا بقوله عليه السلام : لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه . قالوا : فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك ، ولصاحب الملك التصرف . وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع ؛ فإن الله تعالى يقول : وبالوالدين إحسانا فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب ، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه ؛ فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث فيشتريه فيعتقه ، أو لأجل الإحسان عملا بالآية . ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه . وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك ، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة ، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث ، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب ، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة ؛ فإنه يقول : أنا ابن أبيه . وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه . والله أعلم .الخامسة : قوله تعالى : والأرحام الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ؛ ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام . فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند . وهم يرون ذلك نسخا ، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة ، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات . والله أعلم .السادسة : قوله تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا أي حفيظا ؛ عن ابن عباس ومجاهد . ابن زيد : عليما . وقيل : رقيبا حافظا ؛ قيل : بمعنى فاعل . فالرقيب من صفات الله تعالى ، والرقيب : الحافظ والمنتظر ؛ تقول رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت . والمرقب : المكان العالي المشرف ، يقف عليه الرقيب . والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . ويقال : إن الرقيب ضرب من الحيات ، فهو لفظ مشترك . والله أعلم .
ex