سورة المائدة : الآية 67

تفسير الآية 67 سورة المائدة

۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

يا أيها الرسول بلِّغ وحي الله الذي أنزِل إليك من ربك، وإن قصَّرت في البلاغ فَكَتَمْتَ منه شيئًا، فإنك لم تُبَلِّغ رسالة ربِّك، وقد بلَّغ صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كاملة، فمن زعم أنه كتم شيئًا مما أنزِل عليه، فقد أعظم على الله ورسوله الفرية. والله تعالى حافظك وناصرك على أعدائك، فليس عليك إلا البلاغ. إن الله لا يوفق للرشد مَن حاد عن سبيل الحق، وجحد ما جئت به من عند الله.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

(يا أيها الرسول بلغ) جميع (ما أنزل إليك من ربك) ولا تكتم شيئا منه خوفا أن تنال بمكروه (وإن لم تفعل) أي لم تبلغ جميع ما أنزل إليك (فما بلغت رسالته) بالإفراد والجمع لأن كتمان بعضها ككتمان كلها (والله يعصمك من الناس) أن يقتلوك وكان صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت فقال: "" انصرفوا فقد عصمني الله "" رواه الحاكم (إن الله لا يهدي القوم الكافرين).

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية. فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله. فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين. وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ْ أي: لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ْ أي: فما امتثلت أمره. وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ْ هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك، فأنت إنما عليك البلاغ المبين، فمن اهتدى فلنفسه، وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم ولا يوفقهم للخير، بسبب كفرهم.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك ، وقام به أتم القيام .قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق عن عائشة قالت : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب ، الله يقول : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية .هكذا رواه ههنا مختصرا ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا . وكذا رواه مسلم في " كتاب الإيمان " والترمذي والنسائي في " كتاب التفسير " من سننهما من طرق ، عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع عنها رضي الله عنها .وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئا لكتم هذه الآية : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) [ الأحزاب : 37 ] .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس . فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء .وهذا إسناد جيد ، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر .وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم .وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل ، في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من الصحابة نحو من أربعين ألفا كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويقلبها إليهم ويقول : " اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت " .وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا فضيل - يعني ابن غزوان - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " يا أيها الناس ، أي يوم هذا؟ " قالوا : يوم حرام . قال : " أي بلد هذا؟ " قالوا : بلد حرام . قال : " فأي شهر هذا؟ " قالوا : شهر حرام . قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا " . ثم أعادها مرارا . ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال : " اللهم هل بلغت! " مرارا - قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عز وجل - ثم قال : " ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " .وقد روى البخاري عن علي ابن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان ، به نحوه .وقوله : ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) يعني : وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به ( فما بلغت رسالته ) أي : وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) يعني : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان ، عن رجل عن مجاهد قال : لما نزلت : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) قال : " يا رب ، كيف أصنع وأنا وحدي؟ يجتمعون علي " . فنزلت ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته )ورواه ابن جرير من طريق سفيان - وهو الثوري - به .وقوله : ( والله يعصمك من الناس ) أي : بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك .وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس كما قال الإمام أحمد :حدثنا يزيد ، حدثنا يحيى قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث : أن عائشة كانت تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة ، وهي إلى جنبه ، قالت : فقلت : ما شأنك يا رسول الله؟ قال : " ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة؟ " قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : " من هذا؟ " فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : " ما جاء بك؟ " قال : جئت لأحرسك يا رسول الله . قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه . أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به .وفي لفظ : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة . يعني : على أثر هجرته [ إليها ] بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري - نزيل مصر - حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد - يعني أبا قدامة - ، عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق عن عائشة [ رضي الله عنها ] قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : ( والله يعصمك من الناس ) قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، وقال : " يا أيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل " .وهكذا رواه الترمذي ، عن عبد بن حميد وعن نصر بن علي الجهضمي كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به . ثم قال : وهذا حديث غريب .وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه ، من طرق مسلم بن إبراهيم به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن الحارث بن عبيد أبي قدامة [ الإيادي ] عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة به .ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجريري ، عن ابن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس . ولم يذكر عائشة .قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية وابن مردويه من طريق وهيب كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلا وقد روي هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي رواهما ابن جرير والربيع بن أنس رواه ابن مردويه ثم قال :حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين المصري ، حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي ، حدثنا الفضل بن المختار ، عن عبد الله بن موهب عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت : ( والله يعصمك من الناس ) فترك الحرس .حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي ، حدثنا كردوس بن محمد الواسطي ، حدثنا معلى بن عبد الرحمن ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت هذه الآية : ( والله يعصمك من الناس ) ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس .حدثنا علي بن أبي حامد المديني ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار ، حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت : ( والله يعصمك من الناس ) فذهب ليبعث معه ، فقال : " يا عم ، إن الله قد عصمني ، لا حاجة لي إلى من تبعث " .وهذا حديث غريب وفيه نكارة فإن هذه الآية مدنية ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية .ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، عن النضر ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه ، حتى نزلت عليه هذه الآية : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : " إن الله قد عصمني من الجن والإنس " .ورواه الطبراني ، عن يعقوب بن غيلان العماني ، عن أبي كريب به .وهذا أيضا غريب . والصحيح أن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، والله أعلم .ومن عصمة الله [ عز وجل ] لرسوله حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا ، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا ، ثم قيض الله [ عز وجل ] له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود ، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه ، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله به وحماه [ الله ] منه ; ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها ، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :فقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها . فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني؟ فقال : " الله عز وجل " ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله عز وجل : ( والله يعصمك من الناس )وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا موسى بن عبيدة حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال غورث بن الحارث من بني النجار : لأقتلن محمدا . فقال له أصحابه : كيف تقتله؟ قال : أقول له : أعطني سيفك . فإذا أعطانيه قتلته به ، قال : فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشيمه . فأعطاه إياه ، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حال الله بينك وبين ما تريد " فأنزل الله ، عز وجل : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس )وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة " غورث بن الحارث " مشهورة في الصحيح .وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله يمنعني منك ، ضع السيف " . فوضعه ، فأنزل الله ، عز وجل : ( والله يعصمك من الناس )وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن عبد الله بن محمد ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن المؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة به .وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت أبا إسرائيل - يعني الجشمي - سمعت جعدة - هو ابن خالد بن الصمة الجشمي - رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينا ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : " لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك " . قال : وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال : هذا أراد أن يقتلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لم ترع ، لم ترع ، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي " .وقوله : ( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أي : بلغ أنت ، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) [ البقرة : 272 ] وقال ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصارى قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل. فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه، فقال الحارث من بنى النجار: لأقتلن محمدا فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له أعطنى سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه فقال يا محمد. أعطنى سيفك أشيمه- أى أراه- فأعطاه إياه- فرعدت يده حتى سقط السيف من يده: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الله بينك وبين ما تريد.فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية.قال الفخر الرازي- بعد أن ذكر عشرة أقوال في سبب نزولها- واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمل الآية على أن الله- تعالى- آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاما مع اليهود والنصارى، امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها».وهذا الذي قاله الإمام الرازي هو الذي تسكن إليه النفس أى أن الآية الكريمة ساقها الله- تعالى- لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه وأمره بالمضي في تبليغ رسالته بدون خوف من أعدائه الذين حدثه عن مكرهم به وكراهتهم له، حديثا مستفيضا، وقد بشره- سبحانه- في هذه الآية بأنه حافظه من مكرهم وعاصمه من كيدهم.وقوله: بَلِّغْ من التبليغ بمعنى: إيصال الشيء إلى المطلوب إيصاله إليه.والمعنى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الكريم المرسل إلى الناس جميعا بَلِّغْ أى: أوصل إليهم ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أى: كل ما أنزل إليك من ربك من الأوامر والنواهي والأحكام والآداب والأخبار دون أن تخشى أحدا إلا الله. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرت به من إيصال وتبليغ جميع ما أنزل إليك من ربك إلى الناس فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أى: وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك من ربك كنت كمن لم يبلغ شيئا مما أوحاه الله إليه، لأن ترك بعض الرسالة يعتبر تركا لها كلها.وقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله: قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أى: وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أى: فلم تبلغ إذا ما كلفت به من أداء الرسالة، ولم تؤد منها شيئا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض وإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدلى بهغيرها، وكونها لذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به».وفي ندائه صلى الله عليه وسلم بوصف الرسالة تشريف له وتكريم وتمهيد لما يأمره به الله من وجوب تبليغ ما كلف بتبليغه إلى الناس دون أن يخشى أحدا سواه.لأن الله- تعالى- هو الذي خلقه ورباه وتعهده بالرعاية والحماية. وهو الذي اختاره لحمل هذه الرسالة دون غيره، فمن الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل إليه منه- سبحانه- قال الجمل: وقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ظاهر هذا التركيب اتحاد الشرط والجزاء، لأنه يؤول ظاهرا إلى وإن لم تفعل فما فعلت، مع أنه لا بد وأن يكون الجواب مغايرا للشرط لتحصل الفائدة ومتى اتحدا اختل الكلام.وقد أجاب عن ذلك ابن عطية بقوله أى: وإن تركت شيئا فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به فصار المعنى: وإن لم تستوف ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا».وقال صاحب الانتصاف ما ملخصه: ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوما عند الناس أنه عظيم شنيع، ينقم على مرتكبه بل إن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول: لما كان الأمر كذلك استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء، للصوقها بالجزاء في الأفهام وإن كان من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز يذكر الشرط عاما بقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة، حتى يكون اللفظ متغايرا، وهذه المغايرة اللفظية- وإن كان المعنى واحدا- أحسن رونقا، وأظهر طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذا الفصل كاللباب من علم البيان».هذا، ومن المعلوم الذي لا خفاء فيه عند كل مسلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أمره الله به البلاغ التام، وقام به أتم القيام دون أن يزيد شيئا على ما كلفه به ربه أو ينقص شيئا.وقد ساق ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من النصوص التي تشهد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد امتثل أمر الله في تبليغ رسالته، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن عائشة أنها قالت لمسروق: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب.والله يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية.ثم قال: ابن كثير: وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع. فقد قال في خطبته يومئذ: «أيها الناس، إنكم مسئولون عنى فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت».وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وعد منه- سبحانه- بحفظ نبيه من كيد أعدائه.وقوله: يَعْصِمُكَ من العصم بمعنى الإمساك والمنع. وأصله- كما يقول ابن جرير- من عصام القربة، وهو ما تربط به من سير وخيط ومنه قول الشاعر:وقلت عليكم بمالك إن مالكا ... سيعصمكم إن كان في الناس عاصمأى: سيمنعكم.والمعنى: عليك يا محمد أن تبلغ رسالة الله دون أن تخشى أحدا سواه، والله- تعالى- يحفظك من كيد أعدائك ويمنعك من أن تعلق نفسك بشيء من شبهاتهم واعتراضاتهم ويصون حياتك عن أن يعتدى عليها أحد بالقتل أو الإهلاك:فالمراد بالعصمة هنا: عصمة نفسه وجسمه صلى الله عليه وسلم من القتل أو الإهلاك، وعصمة دعوته من أن يحول دون نجاحها حائل. وهذا لا ينافي ما تعرض له صلى الله عليه وسلم من بأساء وضراء وأذى بدني، فقد رماه المشركون بالحجارة حتى سالت دماؤه، وشج وجهه وكسرت رباعيته في غزوة أحد.والمراد بالناس هنا: المشركون والمنافقون واليهود ومن على شاكلتهم في الكفر والضلال والعناد، إذ ليس في المؤمنين الصادقين إلا كل محب لله ولرسوله.ولقد تضمنت هذه الجملة الكريمة معجزة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصم الله- تعالى- حياة رسوله عن أن يصيبها قتل أو إهلاك على أيدى الناس مهما دبروا له من مكر وكيد.لقد نجاه من كيدهم عند ما اجتمعوا لقتله في دار الندوة ليلة هجرته إلى المدينة.ونجاه من كيد اليهود عند ما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم.ونجاه من مكرهم عند ما هموا بإلقاء حجر عليه وهو جالس تحت دار من دورهم.ونجاه من مكرهم عند ما وضعت إحدى نسائهم السم في طعام قدم إليه صلى الله عليه وسلم.إلى غير ذلك من الأحداث التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه. ولكن الله- تعالى- نجاه منهموهناك آثار تشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس من بعض أصحابه فلما نزلت هذه الآية صرفهم عن حراسته.فقد أخرج الترمذي والحاكم وابن أبى حاتم وابن جرير عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس ليلا حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: «أيها الناس انصرفوا لقد عصمنى الله» .وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تذييل قصد به تعليل عصمته صلى الله عليه وسلم وتثبيت قلبه أى: إن الله- تعالى- لا يهدى القوم الكافرين إلى طريق الحق بسبب عنادهم وإيثارهم الغي على الرشد. ولا يوصلهم إلى ما يريدونه من قتلك ومن القضاء على دعوتك، بل سينصرك عليهم ويجعل العاقبة لك.وبعد هذا التثبيت والتكريم لنبيه. أمره- سبحانه- أن يصارح أهل الكتاب بما هم عليه من باطل وأن يدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاء به فقال- تعالى-:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله عز وجل : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية ، روي عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله فقد كذب ، وهو يقول : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية . روى الحسن : أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذبه ، فنزلت هذه الآية .وقيل : نزلت في عيب اليهود ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام ، فقالوا أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ، فيقولون له : تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت هذه الآية ، وأمره أن يقول لهم : " ياأهل الكتاب لستم على شيء " الآية .وقيل : بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ، نزلت في قصة اليهود .وقيل : نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها .وقيل : في الجهاد ، وذلك أن المنافقين كرهوه ، كما قال الله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ( محمد ، 20 ) وكرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى : " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " الآية ( النساء ، 70 ) ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم ، فأنزل الله هذه الآية .قوله تعالى : ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) قرأ أهل المدينة ( رسالاته ) ، على الجمع والباقون رسالته على التوحيد .ومعنى الآية : إن لم تبلغ الجميع وتركت بعضه ، فما بلغت شيئا ، أي : جرمك في ترك تبليغ البعض كجرمك في ترك تبليغ الكل ، كقوله : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا " ( النساء ، 150 - 151 ) ، أخبر أن كفرهم بالبعض محبط للإيمان بالبعض .وقيل : بلغ ما أنزل إليك أي : أظهر تبليغه ، كقوله : " فاصدع بما تؤمر " ( الحجر ، 94 ) وإن لم تفعل : فإن لم تظهر تبليغه فما بلغت رسالته ، أمره بتبليغ ما أنزل إليه مجاهرا محتسبا صابرا ، غير خائف ، فإن أخفيت منه شيئا لخوف يلحقك فما بلغت رسالته .( والله يعصمك من الناس ) يحفظك ويمنعك من الناس ، فإن قيل : أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى؟قيل : معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك .وقيل : نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن .وقيل : والله يخصك بالعصمة من بين الناس ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم .( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أنا سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قفل معه وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي ، فقال : " إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتا ، فقال : من يمنعك مني؟ فقلت : الله " ثلاثا " ، ولم يعاقبه وجلس . .وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأعرابي سل سيفه وقال : من يمنعك مني يا محمد قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر أنا يحيى بن سعيد أنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة ، إذ سمعنا صوت سلاح ، فقال : من هذا؟ قال : أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك ، فنام النبي صلى الله عليه وسلم .وقال عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : ( والله يعصمك من الناس ) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : " أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله سبحانه وتعالى " .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرينفيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل : معناه أظهر التبليغ ; لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين ، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية ، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس ، وكان عمر رضي الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال : لا نعبد الله سرا ; وفي ذلك نزلت : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين فدلت الآية على رد قول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية ، وعلى بطلانه ، وهم الرافضة ، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين ; لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا ، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فائدة ، وقيل : بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها ، وقيل غير هذا ، والصحيح القول بالعموم ; قال ابن عباس : المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك ، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته ; وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته ، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه ; وفي صحيح مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت : من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب ; والله تعالى يقول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وقبح الله الروافض حيث قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى الله إليه كان بالناس حاجة إليه .الثانية : قوله تعالى : والله يعصمك من الناس فيه دليل على نبوته ; لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم ، ومن ضمن سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به ، وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : من يمنعك مني ؟ فقال : الله ; فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده ; وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ; ذكره المهدوي ، وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال : وقد رويت هذه القصة في الصحيح ، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه ; فرجع إلى قومه وقال : جئتكم من عند خير الناس ، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله : إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم مستوفى ، وفي " النساء " أيضا في ذكر صلاة الخوف ، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها ، قال : وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر ، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده فقال لي : من يمنعك مني - قال - قلت : الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني - قال - قلت : الله قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل : والله يعصمك من الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا أحتاج إلى من يحرسني .قلت : وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة ، وأن الآية مكية وليس كذلك ، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع ; ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة قالت : فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح ; فقال : من هذا ؟ قال : سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما جاء بك ؟ فقال : وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه ; فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام ، وفي غير الصحيح قالت : فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح ; فقال : من هذا ؟ فقالوا : سعد وحذيفة جئنا نحرسك ; فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية ; فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم وقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله .وقرأ أهل المدينة : " رسالاته " على الجمع ، وأبو عمرو وأهل الكوفة : " رسالته " على التوحيد ; قال النحاس : والقراءتان حسنتان والجمع أبين ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه ، والإفراد يدل على الكثرة ; فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . إن الله لا يهدي القوم الكافرين أي : لا يرشدهم وقد تقدم ، وقيل : أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا . نظيره ما على الرسول إلا البلاغ والله أعلم .
ex