سورة المائدة : الآية 45

تفسير الآية 45 سورة المائدة

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُۥ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

وفَرَضنا عليهم في التوراة أن النفس تُقْتَل بالنفس، والعين تُفْقَأ بالعين، والأنف يُجْدَع بالأنف، والأذُن تُقْطع بالأذُن، والسنَّ تُقْلَعُ بالسنِّ، وأنَّه يُقْتَصُّ في الجروح، فمن تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المُعتدي فذلك تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه وإزالةٌ لها. ومن لم يحكم بما أنزل الله في القصاص وغيره، فأولئك هم المتجاوزون حدود الله.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«وكتبنا» فرضنا «عليهم فيها» أي التوراة «أن النفس» تقتل «بالنفس» إذا قتلتها «والعين» تُفقأ «بالعين والأنف» يجُدع «بالأنف والأذن» تُقطع «بالأذن والسنَّ» تقلع «بالسنِّ» وفي قراءة بالرفع في الأربعة «والجروح» بالوجهين «قصاص» أي فيها إذا كاليد والرجل ونحو ذلك وما لا يمكن فيه الحكومة وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا «فمن تصدق به» أي القصاص بأن مكن عن نفسه «فهو كفارة له» لما أتاه «ومن لم يحكم بما أنزل الله» في القصاص وغيره «فأولئك هم الظالمون».

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

هذه الأحكام من جملة الأحكام التي في التوراة، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. إن الله أوجب عليهم فيها أن النفس -إذا قتلت- تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة، والعين تقلع بالعين، والأذن تؤخذ بالأذن، والسن ينزع بالسن. ومثل هذه ما أشبهها من الأطراف التي يمكن الاقتصاص منها بدون حيف. وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ والاقتصاص: أن يفعل به كما فعل. فمن جرح غيره عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه للمجروح، حدا، وموضعا، وطولا، وعرضا وعمقا، وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه. فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ أي: بالقصاص في النفس، وما دونها من الأطراف والجروح، بأن عفا عمن جنى، وثبت له الحق قبله. فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ أي: كفارة للجاني، لأن الآدمي عفا عن حقه. والله تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه، وكفارة أيضا عن العافي، فإنه كما عفا عمن جنى عليه، أو على من يتعلق به، فإن الله يعفو عن زلاته وجناياته. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، فهو ظلم أكبر، عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

وهذا أيضا مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه ، فإن عندهم في نص التوراة : أن النفس بالنفس . وهم يخالفون ذلك عمدا وعنادا ، ويقيدون النضري من القرظي ، ولا يقيدون القرظي من النضري ، بل يعدلون إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ; ولهذا قال هناك : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا ، وقال هاهنا : ( فأولئك هم الظالمون ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخالفوا وظلموا ، وتعدى بعضهم على بعض .وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن يونس بن يزيد عن أبي علي بن يزيد - أخي يونس بن يزيد - عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ) نصب النفس ورفع العين .وكذا رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن المبارك وقال الترمذي : حسن غريب .وقال البخاري : تفرد ابن المبارك بهذا الحديث .وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إذا حكي مقررا ولم ينسخ ، كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الاسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية ، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة .وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة . رواه ابن أبي حاتم .وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها : أن شرع إبراهيم حجة دون غيره ، وصحح منها عدم الحجية ، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الاسفراييني أقوالا عن الشافعي ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا ، فالله أعلم .وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ رحمه الله ، في كتابه " الشامل " إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه ، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة ، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : " أن الرجل يقتل بالمرأة " وفي الحديث الآخر : " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وهذا قول جمهور العلماء .وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية ; لأن ديتها على النصف من دية الرجل ، وإليه ذهب أحمد في روايته [ عنه ] وحكي [ هذا ] عن الحسن [ البصري ] وعطاء وعثمان البتي ورواية عن أحمد [ به ] أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب ديتها .وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى ، بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي ، وعلى قتل الحر بالعبد ، وقد خالفه الجمهور فيهما ، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقتل مسلم بكافر " وأما العبد فعن السلف في آثار متعددة : أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر ، ولا يقتلون حرا بعبد ، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح ، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة .ويؤيد ما قاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا محمد بن أبي عدي حدثنا حميد عن أنس بن مالك : أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إلى القوم العفو ، فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " القصاص " . فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله ، تكسر ثنية فلانة ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أنس ، كتاب الله القصاص " . قال : فقال : لا والذي بعثك بالحق ، لا تكسر ثنية فلانة . قال : فرضي القوم ، فعفوا وتركوا القصاص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " .أخرجاه في الصحيحين وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه ، عن حميد عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرضوا عليهم الأرش ، فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بالقصاص ، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أنس ، كتاب الله القصاص " . فعفا القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " . رواه البخاري عن الأنصاري . فأما الحديث الذي رواه أبو داود :حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي ، عن قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن حصين أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أناس فقراء ، فلم يجعل عليه شيئا . وكذا رواه النسائي عن إسحاق ابن راهويه عن معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة به ، وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات فإنه حديث مشكل ، اللهم إلا أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ ، فلا قصاص عليه ، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء ، أو استعفاهم عنه .وقوله تعالى : ( والجروح قصاص ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السن بالسن ، وتقتص الجراح بالجراح .فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين [ به ] فيما بينهم ، رجالهم ونساؤهم ، إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس ، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدا ، في النفس وما دون النفس ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .الجراح تارة تكون في مفصل ، فيجب فيه القصاص بالإجماع ، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك . وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم ، فقال مالك رحمه الله : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها ; لأنه مخوف خطر . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام إلا في السن . وقال الشافعي : لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقا ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس . وبه يقول عطاء والشعبي والحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز . وإليه ذهب سفيان الثوري والليث بن سعد . وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد .وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله ، بحديث الربيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن . وحديث الربيع لا حجة فيه ; لأنه ورد بلفظ : " كسرت ثنية جارية " وجائز أن تكون سقطت من غير كسر ، فيجب القصاص - والحالة هذه - بالإجماع . وتمموا الدلالة . بما رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش عن دهثم بن قران عن نمران بن جارية عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل ، فقطعها ، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر له بالدية ، فقال : يا رسول الله ، أريد القصاص . فقال : " خذ الدية ، بارك الله لك فيها " . ولم يقض له بالقصاص .وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ودهثم بن قران العكلي ضعيف أعرابي ، ليس حديثه مما يحتج به ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضا ، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة .ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحه المجني عليه ، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه ، فلا شيء له ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق فذكر حديثا ، قال ابن إسحاق : وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ; أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقدني . فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تعجل حتى يبرأ جرحك " . قال : فأبى الرجل إلا أن يستقيد ، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، قال : فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه ، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، عرجت وبرأ صاحبي . فقال : " قد نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك " . ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه . تفرد به أحمد .فلو اقتص المجني عليه من الجاني ، فمات من القصاص ، فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم . وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص . وقال عامر الشعبي وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحارث العكلي وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان والزهري والثوري : تجب الدية على عاقلة المقتص له . وقال ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة وعثمان البتي : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ، ويجب الباقي في ماله .وقوله : ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) يقول : فمن عفا عنه ، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب ، وأجر للطالب .وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) قال : كفارة للجارح ، وأجر المجروح على الله عز وجل . رواه ابن أبي حاتم ثم قال : وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ومجاهد وإبراهيم - في أحد قوليه - وعامر الشعبي وجابر بن زيد - نحو ذلك الوجه الثاني ، ثم قال ابن أبي حاتم :حدثنا حماد بن زاذان حدثنا حرمي - يعني ابن عمارة - حدثنا شعبة عن عمارة - يعني ابن أبي حفصة - عن رجل ، عن جابر بن عبد الله في قول الله عز وجل ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) قال : للمجروح . وروى عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه - وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك .وروى ابن جرير عن عامر الشعبي وقتادة مثله .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن قيس - يعني بن مسلم - قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث ، عن الهيثم أبي العريان النخعي قال : رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيها بالموالي ، فسألته عن قول الله [ عز وجل ] ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به .وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم . وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة .وقال ابن مردويه : حدثني محمد بن علي ، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المجاشعي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي حدثنا معلى - يعني ابن هلال - أنه سمع أبان بن تغلب عن أبي العريان الهيثم بن الأسود عن عبد الله بن عمرو - وعن أبان بن تغلب عن الشعبي عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) قال : هو الذي تكسر سنه ، أو تقطع يده ، أو يقطع الشيء منه ، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك ، وقال فيحط عنه قدر خطاياه ، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك .ثم قال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألح عليه الرجل قال : شأنك وصاحبك . قال : وأبو الدرداء عند معاوية فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة ، وحط عنه به خطيئة " . فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال .هكذا رواه ابن جرير ورواه الإمام أحمد فقال : حدثنا وكيع حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال القرشي : إن هذا دق سني ؟ قال معاوية : إنا سنرضيه . فألح الأنصاري ، فقال معاوية : شأنك بصاحبك وأبو الدرداء جالس ، فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء في جسده ، فيتصدق به ، إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه بها خطيئة " . فقال الأنصاري : فإني ، يعني : قد عفوت .وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك وابن ماجه من حديث وكيع كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق به ، ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء .وقال [ أبو بكر ] بن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا محمد بن علي بن زيد حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمران بن ظبيان عن عدي بن ثابت ; أن رجلا هتم فمه رجل ، على عهد معاوية رضي الله عنه ، فأعطي دية ، فأبى إلا أن يقتص ، فأعطي ديتين ، فأبى ، فأعطي ثلاثا ، فأبى ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت " .وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان حدثنا هشيم عن المغيرة عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح من جسده جراحة ، فيتصدق بها ، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به .ورواه النسائي عن علي بن حجر عن جرير بن عبد الحميد ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش عن هشيم كلاهما عن المغيرة به .وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن عامر عن المحرر بن أبي هريرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أصيب بشيء من جسده ، فتركه لله ، كان كفارة له " .وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ثم بين- سبحانه- بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله- تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ.وقوله: كَتَبْنا بمعنى فرضنا وأوجبنا وقررنا. والمراد بالنفس: الذات.أى: أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونورا لبنى إسرائيل، وفرضنا عليهم (أن النفس بالنفس) أى: مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق. وأن (العين) مفقوءة بِالْعَيْنِ وأن الْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وأن الْأُذُنَ مقطوعة بِالْأُذُنِ وأن السِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وأن الْجُرُوحَ قِصاصٌ أى: ذات قصاص، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه- ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته- ففيه حكومة عدل.وعبر- سبحانه- عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله: كَتَبْنا للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقا وقوة.قال القرطبي ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ. ألخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف.وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به- أى أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره.وقرأ الكسائي وأبو عبيد: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ بالرفع فيها كلها.قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير، عن عقيل عن الزهري، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.والرفع من ثلاث جهات، بالابتداء والخبر. والوجه الثاني: بالعطف على المعنى على موضع (أن النفس) ، لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس والوجه الثالث- قاله الزجاج- يكون عطفا على المضمر في النفس. لأن الضمير في النفس في موضع رفع، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي .وقوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ترغيب في العفو والصفح.والضمير في (به) يعود إلى القصاص. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس. وإلى فتح باب التسامح بين الناس.وقوله: فَهُوَ يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل (تصدق) والضمير في قوله لَهُ يعود إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو من يقوم مقامه.والمعنى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بما ثبت له من حق القصاص، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص.وقيل إن الضمير في لَهُ يعود على الجاني فيكون المعنى: فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص، بأن عفا عن الجاني، فإن هذا التصدق يكون كفارة له. أى لذنوب الجاني، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو. وأما المتصدق فأجره على الله.وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجنى عليه أو ولى دمه فقال:وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب: قول من قال: عنى به: فمن تصدق به فهو كفارة له أى المجروح، ولأنه لأن تكون الهاء في قوله (له) عائدة على (من) أولى من أن تكون عائدة على من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات) .وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله. أى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم.قال الرازي: وفيه سؤال وهو أنه- تعالى-. قال: أولا: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وثانيا هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأى فائدة في ذكر الأخف بعده؟وجوابه: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس. ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق- سبحانه- وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه» .هذا، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتى:1- أن الآية الكريمة- ككثير غيرها- تنعى على بنى إسرائيل إهمالهم لأحكام الله- تعالى- وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم.قال ابن كثير: هذه الآية مما وبخت به اليهود أيضا وقرعت عليه، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس. وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا فأقادوا النضري من القرظي، ولم يقيدوا القرظي من النضري وعدلوا إلى الدية، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار. ولهذا قال هناك وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال هنا في تتمة الآية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض.ثم قال: واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية. وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ. والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة» .2- استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة. ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: أن الرجل يقتل بالمرأة.. وفي رواية للإمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل تجب ديتها .قال الآلوسى: واستدل بعموم أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ من قال: يقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله- تعالى:الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى وبقوله صلى الله عليه وسلم «لا يقتل مؤمن بكافر» .وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفى ما عداه. والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي» .3- استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله- تعالى- الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ إلخ. إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى.وقالوا: إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمدا. فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية: إن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة.ويرى بعضهم أن في عين الأعور الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها.وقد توسع الإمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت .4- أخذ العلماء من هذه الآية أن الله- تعالى- رغب في العفو، وحض عليه، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال- تعالى- فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. أى: فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه.وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله- تعالى-: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وقوله- تعالى- وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ .وروى الإمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» .وروى ابن جرير عن أبى السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار، فاندقت ثنيته. فرفعه الأنصارى إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك.قال: وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» . فقال الأنصارى: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته أذناى ووعاه قلبي- فخلى سبيل القرشي. فقال معاوية: «مروا له بمال» ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجرا للمعتدى. وإشعارا له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده، جبرا لخاطر المعتدى عليه، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه.ومع هذا التمكين التام للمجنى عليه من الجاني فقد رغب الإسلام المجنى عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه، وارتفاع درجاته عند الله- تعالى-وبعد أن بين- سبحانه- منزلة التوراة وما اشتملت عليه من هدايات وتشريعات أتبع ذلك ببيان منزلة الإنجيل وما اشتمل عليه من مواعظ وأحكام.. فقال- تعالى-:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله تعالى : ( وكتبنا عليهم فيها ) أي : أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة ، ( أن النفس بالنفس ) يعني : نفس القاتل بنفس المقتول وفاء يقتل به ، ( والعين بالعين ) تفقأ بها ، ( والأنف بالأنف ) يجدع به ، ( والأذن بالأذن ) تقطع بها ، قال ابن عباس : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو : أن النفس بالنفس إلى آخرها ، فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين ، ويفقأون بالعين العينين ، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن وثقلها الآخرون ، ( والسن بالسن ) تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص ، ( والجروح قصاص ) فهذا تعميم بعد تخصيص ، لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ، ثم قال : ( والجروح قصاص ) أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها ، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه ، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته ، وقرأ الكسائي " والعين " وما بعدها بالرفع ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأبو عمرو " والجروح " بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس .قوله تعالى : ( فمن تصدق به ) أي بالقصاص ( فهو كفارة له ) قيل : الهاء في " له " كناية عن المجروح وولي القتيل ، أي : كفارة للمتصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة .أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخبرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه " .وقال جماعة : هي كناية عن الجارح والقاتل ، يعني : إذا عفا المجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة ، كما أن القصاص كفارة له ، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل ، قال الله تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " ( الشورى - 40 ) ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمونفيه ثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك ، فضلوا ; فكانت دية النضيري أكثر ، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي ، ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، فحكم بالاستواء ; فقالت بنو النضير : قد حططت منا ; فنزلت هذه الآية . وكتبنا بمعنى فرضنا ، وقد تقدم ، وكان شرعهم القصاص أو العفو ، وما كان فيهم الدية ; كما تقدم في " البقرة " بيانه .وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال : يقتل المسلم بالذمي ; لأنه نفس بنفس ، وقد تقدم في " البقرة " بيان هذا ، وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : لا ، إلا ما في هذا ، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ) وأيضا فإن الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل ، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل ، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين ، وقالت الشافعية : هذا خبر عن شرع من قبلنا ، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا ; وقد مضى في " البقرة " في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك .ووجه رابع : وهو أنه تعالى قال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة ، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة ; لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين ، ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأمة ، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه ; فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ ; فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس ، إذ يشير إلى قوم معينين ، ويقول : إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم بالنفس ; فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم - على هذا الوجه - : النفس بالنفس ، وليس في كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة .الثانية : قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة : إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به ; لأن الله تعالى قال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين فيؤخذ منه ما أخذ ، ويفعل به كما فعل ، وقال علماؤنا : إن قصد به المثلة فعل به مثله ، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف ; وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين ; حسبما تقدم بيانه في هذه السورة .الثالثة : قوله تعالى : والعين بالعين قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف ، ويجوز تخفيف " أن " ورفع الكل بالابتداء والعطف ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ، وكان الكسائي وأبو عبيد يقرآن " والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح " بالرفع فيها كلها . قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " ، والرفع من ثلاث جهات ; بالابتداء والخبر ، وعلى المعنى على موضع ( أن النفس ) ; لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس .والوجه الثالث : قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس ; لأن الضمير في النفس في موضع رفع ; لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس ; فالأسماء معطوفة على هي .قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام ، حكم في المسلمين ; وهذا أصح القولين ، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم " والعين بالعين " وكذا ما بعده ، والخطاب للمسلمين أمروا بهذا . ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها ; كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة ، وما قبله لم يواجهوا به .الرابعة : هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله : والعين بالعين على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس ، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى ، وقال : تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية ; لعموم قوله تعالى : والسن بالسن . والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا : العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها ، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا ; وذلك يبين لنا أن المراد بقوله : والعين بالعين استيفاء ما يماثله من الجاني ; فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها ، وهذا لا ريب فيه .الخامسة : وأجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة ; روي ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق ، وقيل : نصف الدية ; روي ذلك عن عبد الله بن المغفل ومسروق والنخعي ; وبه قال الثوري والشافعي والنعمان . قال ابن المنذر : وبه نقول ; لأن في الحديث في العينين الدية ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية . قال ابن العربي : وهو القياس الظاهر ، ولكن علماؤنا قالوا : إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك ، فوجب عليه مثل ديته .السادسة : واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح ; فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه ، وعليه الدية كاملة ; وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل ، وقال مالك : إن شاء اقتص فتركه أعمى ، وإن شاء أخذ الدية كاملة ( دية عين الأعور ) ، وقال النخعي : إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية . وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري : عليه القصاص ، وروي ذلك عن علي أيضا ، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل ، واختاره ابن المنذر وابن العربي ; لأن الله تعالى قال : والعين بالعين وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية ; ففي العين نصف الدية ، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس ، ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة ، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك ، ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه . قال ابن العربي : والأخذ بعموم القرآن أولى ; فإنه أسلم عند الله تعالى .السابعة : واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها ; فروي عن زيد بن ثابت أنه قال : فيها مائة دينار ، وعن عمر بن الخطاب أنه قال : فيها ثلث ديتها ; وبه قال إسحاق ، وقال مجاهد : فيها نصف ديتها ، وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان : فيها حكومة ; قال ابن المنذر : وبه نقول لأنه الأقل مما قيل .الثامنة : وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية ، ويستوي فيه الأعمش والأخفش ، وفي إبطاله من إحداهما مع بقائها النصف . قال ابن المنذر وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب : أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ، ثم أمر بخط عند ذلك ، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة ، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك ، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء ; فأعطى ما نقص من بصره من مال الآخر ، وهذا على مذهب الشافعي ; وهو قول علمائنا ، وهي :التاسعة : ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر ، إذ غير ممكن الوصول إليه ، وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة ، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها ; روي عن علي رضي الله عنه ; ذكره المهدوي وابن العربي . واختلف في جفن العين ; فقال زيد بن ثابت : فيه ربع الدية ، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي هاشم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ، وروي عن الشعبي أنه قال : في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية ، وبه قال مالك .العاشرة : قوله تعالى : والأنف بالأنف جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية . قال ابن المنذر : وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به ; والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعالى ، واختلفوا في كسر الأنف . فكان مالك يرى في العمد منه القود ، وفي الخطأ الاجتهاد ، وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله . قال أبو إسحاق التونسي : وهذا شاذ ، والمعروف الأول ، وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحسابه من المارن . قال ابن المنذر : وما قطع من الأنف فبحسابه ; روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي . قال أبو عمر : واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف ; فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة ، ثم إن قطع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة . قال مالك : الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن ; وهو دون العظم . قال ابن القاسم : وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية ; كالحشفة فيها الدية : وفي استئصال الذكر الدية .الحادية عشرة : قال ابن القاسم : وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم ففيه الاجتهاد ، وليس فيه دية معلومة . وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه . قال : وليس الأنف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير عثم فيكون فيها ديتها ; لأن تلك جاءت بها السنة ، وليس في خرم الأنف أثر . قال : والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة ، واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه ، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف ، والمارن ما لان من الأنف ; وكذلك قال الخليل وغيره . قال أبو عمر : وأظن روثته مارنه ، وأرنبته طرفه ، وقد قيل : الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف . والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم ، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة .الثانية عشرة : قوله تعالى : والأذن بالأذن قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل : عليه حكومة ، وإنما تكون عليه الدية في السمع ، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر ، وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها ، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة ; على ما تقدم ، وقال أشهب : إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر ، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة ، يقاس ذلك ; فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك . قال أشهب : ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجال مثله ; فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء ، وقال عيسى بن دينار : إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه .الثالثة عشرة : قوله تعالى : والسن بالسن قال ابن المنذر : وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال : كتاب الله القصاص . وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : في السن خمس من الإبل . قال ابن المنذر : فبظاهر هذا الحديث نقول ; لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات ; لدخولها كلها في ظاهر الحديث ; وبه يقول الأكثر من أهل العلم ، وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية ، وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض ، وذلك خمسون دينارا ، قيمة كل فريضة عشرة دنانير ، وفي الأضراس ببعير بعير ، وكان عطاء يقول : في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء ، والأضراس سواء ; قال أبو عمر : أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا ، والأسنان اثنا عشر سنا : أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب ; فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا ; في الأسنان خمسة خمسة ، وفي الأضراس بعير بعير ، وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة ; تصير الدية ستين ومائة بعير . وعلى قول سعيد بن المسيب ، بعيرين بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا . يجب لها أربعون ، وفي الأسنان خمسة أبعرة فذلك ستون ، وهي تتمة المائة بعير ، وهي الدية كاملة من الإبل ، والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان . قال أبو عمر : واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا ، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري ; بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : وفي السن خمس من الإبل والضرس سن من الأسنان . روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء وهذا نص أخرجه أبو داود ، وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء . قال أبو عمر : على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء ، وأن الأسنان في الدية كلها سواء ، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء ; على ما في كتاب عمرو بن حزم . ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال : اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح : الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما . قال أبو عمر : على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار ، والله أعلم .الرابعة عشرة : فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد ، وبه قال أبو حنيفة ، وروي عن زيد بن ثابت ; وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها ; وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال الشافعي وأبو ثور : فيها حكومة . قال ابن العربي : وهذا عندي خلاف يئول إلى وفاق ; فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء ، فلا خلاف في وجوب الدية ; ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة ; وما روي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها .الخامسة عشرة : واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر ; فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون : إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع ، إلا أن مالكا والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها ، وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ; وبه قال النعمان . قال ابن المنذر : يستأنى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت ، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما ; على ظاهر الحديث ، وإن نبتت رد الأرش ، وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون : يستأنى بها سنة ; روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبد العزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي ، ولم يجعل الشافعي لهذا مدة معلومة .السادسة عشرة : إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت ; فقال مالك لا يرد ما أخذ ، وقال الكوفيون : يرد إذا نبتت ، وللشافعي قولان : يرد ولا يرد ; لأن هذا نبات لم تجر به عادة ، ولا يثبت الحكم بالنادر ; هذا قول علمائنا . تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد ; أصله سن الصغير . قال الشافعي : ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما . قال ابن المنذر : هذا أصح القولين ; لأن كل واحد منهما قالع سن ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمسا من الإبل .السابعة عشرة : فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا ، وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ; وقاله ابن المسيب وعطاء ، ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة ; وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله ، وقال عطاء : يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها . قال ابن العربي : وهذا غلط ، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها ; لأن النجاسة كانت فيها للانفصال ، وقد عادت متصلة ، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان ، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها .قلت : ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه ; قال ابن المنذر : واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت ; فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح : لا بأس بذلك . وقال الثوري وأحمد وإسحاق : تقلع ; لأن القصاص للشين ، وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ، ويجبره السلطان على القلع .الثامنة عشرة : فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة ; وبه قال فقهاء الأمصار ، وقال زيد بن ثابت : فيها ثلث الدية . قال ابن العربي : وليس في التقدير دليل ، فالحكومة أعدل . قال ابن المنذر : ولا يصح ما روي عن زيد ; وقد روي عن علي أنه قال : في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه ; وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما .قلت : وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء ، ولم يذكر الشفتين واللسان وهي :التاسعة عشرة : فقال الجمهور : وفي الشفتين الدية ، وفي كل واحدة منهما نصف الدية لا فضل للعليا منهما على السفلى ، وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري : في الشفة العليا ثلث الدية ، وفي الشفة السفلى ثلثا الدية . وقال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ; للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : وفي الشفتين الدية ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة ، وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك ، وأما اللسان فجاء الحديثعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في اللسان الدية . وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به ; قاله ابن المنذر .الموفية عشرين : واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا ، ويذهب من الكلام بعضه ; فقال أكثر أهل العلم : ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه ، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية ; هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وقال مالك : ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود . فإن أمكن فالقود هو الأصل .الحادية والثلاثون : واختلفوا في لسان الأخرس يقطع ; فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه : فيه حكومة . قال ابن المنذر : وفيه قولان شاذان : أحدهما : قول النخعي إن فيه الدية ، والآخر : قول قتادة إن فيه ثلث الدية . قال ابن المنذر : والقول الأول أصح ; لأنه الأقل مما قيل . قال ابن العربي : نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها ; فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه ، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه .الثانية والعشرون : قوله تعالى : والجروح قصاص أي : مقاصة ، وقد تقدم في " البقرة " ، ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص ، ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه ، وهذا كله في العمد ; فأما الخطأ فالدية ، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح ، وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القصاص القصاص ، فقالت أم الربيع : يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ ! والله لا يقتص منها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله قالت : لا والله لا يقتص منها أبدا ; قال فما زالت حتى قبلوا الدية ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .قلت : المجروح في هذا الحديث جارية ، والجرح كسر ثنيتها ; أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ; فقال أخوها أنس بن النضر : أتكسر ثنية فلانة ؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . قال : وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش ، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره . وخرجه أبو داود أيضا ، وقال : سمعت أحمد بن حنبل قيل له : كيف يقتص من السن ؟ قال : تبرد .قلت : ولا تعارض بين الحديثين ; فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما ، وفي هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن شاء الله تعالى . فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة .الثالثة والعشرون : أجمع العلماء على أن قوله تعالى : والسن بالسن أنه في العمد ; فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس ، واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا ; فقال مالك : عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة ، ففي ذلك الدية ، وقال الكوفيون : لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن ; لقوله تعالى : والسن بالسن وهو قول الليث والشافعي . قال الشافعي : لا يكون كسر ككسر أبدا ; فهو ممنوع . قال الطحاوي : اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس ; فكذلك في سائر العظام ، والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم ; فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه ; لخوف ذهاب النفس منه . قال ابن المنذر : ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث ; والخروج إلى النظير غير جائز مع وجود الخبر .قلت : ويدل على هذا أيضا قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وقوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآية ، والله أعلم وبالله التوفيق .الرابعة والعشرون : قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، وما جاء عن غيره في الشجاج . قال الأصمعي وغيره : دخل كلام بعضهم في بعض ; أول الشجاج - الحارصة وهي : التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه قليلا - ومنه قيل : حرص القصار الثوب إذا شقه ; وقد يقال لها : الحرصة أيضا . ثم الباضعة - وهي : التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد . ثم المتلاحمة - وهي : التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق ، والسمحاق : جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم ، وقال الواقدي : هي عندنا الملطى ، وقال غيره : هي الملطاة ، قال : وهي التي جاء فيها الحديث يقضى في الملطاة بدمها . ثم الموضحة - وهي : التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح العظم ، فتلك الموضحة . قال أبو عبيد : وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة ; لأنه ليس منها شيء له حد ينتهى إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها . ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم . ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي : تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء . ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس ، يعني الدماغ . قال أبو عبيد ويقال في قوله : ويقضى في الملطاة بدمها أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها . قال : وسائر الشجاج عندنا يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ . قال أبو عبيد : والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها ; حدثنا هشيم عن حصين قال : قال عمر بن عبد العزيز : ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح ، وقال الحسن البصري : ليس فيما دون الموضحة قصاص ، وقال مالك : القصاص فيما دون الموضحة الملطى والدامية والباضعة وما أشبه ذلك ; وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق ، حكاه ابن المنذر ، وقال أبو عبيد : الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم ، والدامعة : أن يسيل منها دم ، وليس فيما دون الموضحة قصاص ، وقال الجوهري : والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل . وقال علماؤنا : الدامية هي التي تسيل الدم ، ولا قصاص فيما بعد الموضحة ، من الهاشمة للعظم ، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس ، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ ، وفي هاشمة الجسد القصاص ، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه ، وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم : لا قود فيها ; لأنها لا بد تعود منقلة ، وقال أشهب : فيها القصاص ، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها ، وأما الأطراف فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها ، وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين ; لأنها تقبل التقدير ، وفي اللسان روايتان ، والقصاص في كسر العظام ، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه ، وفي كسر عظام العضد القصاص ، وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه ; وفعل ذلك عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بمكة ، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله ; وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا ، وقال : إنه الأمر المجمع عليه عندهم ، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فيكسرها يقاد منه .الخامسة والعشرون : قال العلماء : الشجاج في الرأس ، والجراح في البدن . وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيما ذكر ابن المنذر ; واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس : الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق ; فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي في الدامية حكومة ، وفي الباضعة حكومة ، وفي المتلاحمة حكومة ، وذكر عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال : في الدامية بعير ، وفي الباضعة بعيران ، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل ، وفي السمحاق أربع ، وفي الموضحة خمس ، وفي الهاشمة عشر ، وفي المنقلة خمس عشرة ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة ، أو يضرب حتى يغن ولا يفهم الدية كاملة ، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة ، وفي جفن العين ربع الدية ، وفي حلمة الثدي ربع الدية . قال ابن المنذر : وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد ، وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا : فيها نصف الموضحة ، وقال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والنخعي فيها حكومة ; وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد ، ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل ; على ما في حديث عمرو بن حزم ، وفيه : وفي الموضحة خمس ، وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه ، واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس ; فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء ، وقال بقولهما جماعة من التابعين ; وبه يقول الشافعي وإسحاق ، وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس ، وقال أحمد : موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها ، وقال مالك : المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ ، قال : والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس ، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة . قال مالك : والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة ، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة ، وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس والوجه ; فقال أشهب وابن القاسم : ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد ، وليس فيها أرش معلوم . قال ابن المنذر : هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وبه نقول . وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا . قال أبو عمر : واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة ، وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة . قال ابن المنذر : ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة ، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد ، وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا . وقال أبو ثور : إن اختلفوا فيه ففيها حكومة . قال ابن المنذر : النظر يدل على هذا ; إذ لا سنة فيها ولا إجماع ، وقال القاضي أبو الوليد الباجي : فيها ما في الموضحة ; فإن صارت منقلة فخمسة عشر ، وإن صارت مأمومة فثلث الدية . قال ابن المنذر : ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل ، وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت ; وبه قال قتادة وعبيد الله بن الحسن والشافعي ، وقال الثوري وأصحاب الرأي : فيها ألف درهم ، ومرادهم عشر الدية ، وأما المنقلة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المنقلة خمس عشرة من الإبل وأجمع أهل العلم على القول به . قال ابن المنذر : وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم إن المنقلة هي التي تنقل منها العظام ، وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - إن المنقلة لا قود فيها ; وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة . قال ابن المنذر : والأول أولى ; لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المأمومة ثلث الدية ، وأجمع عوام أهل العلم على القول به ، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال : إذا كانت المأمومة عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإذا كانت خطأ ففيها ثلث الدية ; وهذا قول شاذ ، وبالقول الأول أقول . واختلفوا في القود من المأمومة ; فقال كثير من أهل العلم : لا قود فيها ; وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة ، فأنكر ذلك الناس ، وقال عطاء : ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير ، وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم ; ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال : إذا كانت عمدا ففيها ثلثا الدية ، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدية ، والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة ; فإن نفذت من جهتين فهي عندهم جائفتان ، وفيها من الدية الثلثان . قال أشهب : وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر بدية جائفتين . وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون : لا قصاص في الجائفة . قال ابن المنذر : وبه نقول .السادسة والعشرون : واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها ; فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضي الله عنهم أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها ، وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك ; وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث ، وقال الليث : إن كانت اللطمة في العين فلا قود فيها ; للخوف على العين ويعاقبه السلطان ، وإن كانت على الخد ففيها القود ، وقالت طائفة : لا قصاص في اللطمة ; روي هذا عن الحسن وقتادة ، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي ; واحتج مالك في ذلك فقال : ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي ، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة ; وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة .السابعة والعشرون : واختلفوا في القود من ضرب السوط ; فقال الليث والحسن : يقاد منه ، ويزاد عليه للتعدي . وقال ابن القاسم : يقاد منه . ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح ; قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة ، وقال ابن المنذر : وما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد ، وفيه القود ; وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث ، وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة ، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط ، واقتص شريح من سوط وخموش ، وقال ابن بطال : وحديث لد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح .الثامنة والعشرون : واختلفوا في عقل جراحات النساء ; ففي " الموطأ " عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل ، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه ، وموضحتها كموضحته ، ومنقلتها كمنقلته . قال ابن بكير : قال مالك : فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل . قال ابن المنذر : روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبد الملك بن الماجشون ، وقالت طائفة : دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر ; روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب ، به قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه ; واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله ، وبه نقول .التاسعة والعشرون : قال القاضي عبد الوهاب : وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة ; كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته ، وصفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما ، ثم يقوم مع الجناية فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم ; قال : ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة ، وقيل : بل يقبل قول عدل واحد ، والله سبحانه أعلم . فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه .الموفية ثلاثين : قوله تعالى : فمن تصدق به فهو كفارة له شرط وجوابه ; أي : تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له ، أي : لذلك المتصدق ، وقيل : هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة ; لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه ، وأجر المتصدق عليه . وقد ذكر ابن عباس القولين ; وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم ، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد ، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما ; والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور ، وهو " من " ، وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة . قال ابن العربي : والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ; فلا معنى له .
ex