سورة البقرة : الآية 83

تفسير الآية 83 سورة البقرة

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَقُولُوا۟ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

واذكروا يا بني إسرائيل حين أخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا: بأن تعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن تحسنوا للوالدين، وللأقربين، وللأولاد الذين مات آباؤهم وهم دون بلوغ الحلم، وللمساكين، وأن تقولوا للناس أطيب الكلام، مع أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم أَعْرَضْتم ونقضتم العهد -إلا قليلا منكم ثبت عليه- وأنتم مستمرون في إعراضكم.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«و» اذكر «إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل» في التوراة وقلنا «لا تعبدون» بالتاء والياء «إلا الله» خبر بمعنى النهي، وقرئ: لا تعبدوا «و» أحسنوا «بالوالدين إحساناً» براً «وذي القربى» القرابة عطف على الوالدين «واليتامى والمساكين وقولوا للناس» قولا «حسناً» من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد والرفق بهم، وفي قراءة بضم الحاء وسكون السين مصدر وصف به مبالغة «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» فقبلتم ذلك «ثم تولَّيتم» أعرضتم عن الوفاء به، فيه التفات عن الغيبة والمراد آباؤهم «إلا قليلا منكم وأنتم معرضون» عنه كآبائكم.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

وهذه الشرائع من أصول الدين, التي أمر الله بها في كل شريعة, لاشتمالها على المصالح العامة, في كل زمان ومكان, فلا يدخلها نسخ, كأصل الدين، ولهذا أمرنا بها في قوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا إلى آخر الآية. فقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به, استعصوا؛ فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة, والعهود الموثقة لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ هذا أمر بعبادة الله وحده, ونهى عن الشرك به، وهذا أصل الدين, فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها, فهذا حق الله تعالى على عباده, ثم قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: أحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين, أو عدم الإحسان والإساءة، لأن الواجب الإحسان, والأمر بالشيء نهي عن ضده. وللإحسان ضدان: الإساءة, وهي أعظم جرما، وترك الإحسان بدون إساءة, وهذا محرم, لكن لا يجب أن يلحق بالأول، وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى, والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد, بل تكون بالحد, كما تقدم. ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما فقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف, ونهيهم عن المنكر, وتعليمهم العلم, وبذل السلام, والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب. ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله, أمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق, وهو الإحسان بالقول, فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار, ولهذا قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده, أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله, غير فاحش ولا بذيء, ولا شاتم, ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق, واسع الحلم, مجاملا لكل أحد, صبورا على ما يناله من أذى الخلق, امتثالا لأمر الله, ورجاء لثوابه. ثم أمرهم بإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود, والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد. ثُمَّ بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل, عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها,, وتفضل بها عليهم وأخذ المواثيق عليكم تَوَلَّيْتُمْ على وجه الإعراض، لأن المتولي قد يتولى, وله نية رجوع إلى ما تولى عنه، وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر، فنعوذ بالله من الخذلان. وقوله: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ هذا استثناء, لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم، فأخبر أن قليلا منهم, عصمهم الله وثبتهم.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

ذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر ، وأخذ ميثاقهم على ذلك ، وأنهم تولوا عن ذلك كله ، وأعرضوا قصدا وعمدا ، وهم يعرفونه ويذكرونه ، فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا . وبهذا أمر جميع خلقه ، ولذلك خلقهم كما قال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) [ النحل : 36 ] وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تعالى ، أن يعبد وحده لا شريك له ، ثم بعده حق المخلوقين ، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ، ولهذا يقرن الله تعالى بين حقه وحق الوالدين ، كما قال تعالى : ( أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) [ لقمان : 14 ] وقال تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) الآية إلى أن قال : ( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ) [ الإسراء : 23 - 26 ] وفي الصحيحين ، عن ابن مسعود ، قلت : يا رسول الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : " الصلاة على وقتها " . قلت : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " . قلت : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " . ولهذا جاء في الحديث الصحيح : أن رجلا قال : يا رسول الله ، من أبر ؟ قال : " أمك " . قال : ثم من ؟ قال : " أمك " . قال : ثم من ؟ قال : " أباك . ثم أدناك أدناك " .[ وقوله : ( لا تعبدون إلا الله ) قال الزمخشري : خبر بمعنى الطلب ، وهو آكد . وقيل : كان أصله : ألا تعبدوا كما قرأها بعض السلف فحذفت أن فارتفع ، وحكي عن أبي وابن مسعود ، رضي الله عنهما ، أنهما قرآها : " لا تعبدوا إلا الله " . وقيل : ( لا تعبدون ) مرفوع على أنه قسم ، أي : والله لا تعبدون إلا الله ، ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه . وقال : اختاره المبرد والكسائي والفراء ] .قال : ( واليتامى ) وهم : الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء . [ وقال أهل اللغة : اليتيم في بني آدم من الآباء ، وفي البهائم من الأم ، وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الأم أيضا ] ( والمساكين ) الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم ، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء ، التي أمرنا الله تعالى بها صريحا في قوله : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) الآية [ النساء : 36 ] .وقوله تعالى : ( وقولوا للناس حسنا ) أي : كلموهم طيبا ، ولينوا لهم جانبا ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف ، كما قال الحسن البصري في قوله : ( وقولوا للناس حسنا ) فالحسن من القول : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحلم ، ويعفو ، ويصفح ، ويقول للناس حسنا كما قال الله ، وهو كل خلق حسن رضيه الله .وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا أبو عامر الخزاز ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تحقرن من المعروف شيئا ، وإن لم تجد فالق‏ أخاك بوجه منطلق " .وأخرجه مسلم في صحيحه ، والترمذي [ وصححه ] من حديث أبي عامر الخزاز ، واسمه صالح بن رستم ، به .وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا ، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل ، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي . ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمعين من ذلك ، وهو الصلاة والزكاة ، فقال : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ، أي : تركوه وراء ظهورهم ، وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به ، إلا القليل منهم ، وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء ، بقوله : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) [ النساء : 36 ]فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها ، ولله الحمد والمنة .ومن النقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره :حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح ، عن حميد بن عقبة ، عن أسد بن وداعة : أنه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديا ولا نصرانيا إلا سلم عليه ، فقيل له : ما شأنك ؟ تسلم على اليهودي والنصراني . فقال : إن الله يقول : ( وقولوا للناس حسنا ) وهو : السلام . قال : وروي عن عطاء الخراساني ، نحوه .قلت : وقد ثبت في السنة أنهم لا يبدؤون بالسلام ، والله أعلم .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن رذيلة من أبرز الرذائل التي طبع عليها بنو إسرائيل ، وهي رذيلة نقضهم للعهود والمواثيق فقال تعالى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين . . . )ومعنى الآية إجمالا: واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتستجيبوا للحق- وليذكر معكم كل من ينتفع بالذكرى- وقت أن أخذنا عليكم العهد، وأمرناكم بالعمل به على لسان رسلنا- عليهم السلام- وأمرناكم فيه بألا تعبدوا سوى الله، وأمرناكم فيه كذلك، بأن تحسنوا إلى آبائكم وتقوموا بأداء ما أوجبه الله لهما من حقوق، وأن تصلوا أقرباءكم وتعطفوا على اليتامى الذين فقدوا آباءهم، وعلى المساكين الذين لا يملكون ما يكفيهم في حياتهم، وأمرناكم فيه- أيضا- بأن تقولوا للناس قولا حسنا فيه صلاحهم ونفعهم، وأن تحافظوا على فريضة الصلاة، وتؤدوا بإخلاص ما أوجبه الله عليكم من زكاة، ولكنكم نقضتم أنتم وأسلافكم الميثاق، وأعرضتم عنه، إلا قليلا منكم استمروا على رعايته والعمل بموجبه.والمراد ببني إسرائيل في الآية الكريمة، سلفهم وخلفهم، لأن هذه الأوامر والنواهي التي تناولتها الآية الكريمة، والتي هي مضمون العهد المأخوذ عليهم، قد أخذت عليهم جميعا على لسان أنبيائهم ورسلهم.والدليل على أن المقصود ببني إسرائيل ما يتناول الخلف المعاصرين منهم للعهد النبوي، قوله تعالى في ختام هذه الآية ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ فإنه قد أسند إليهم فيه أنهم تولوا عن الميثاق معرضين، والاعراض عنه لا يكون إلا بعد أخذه عليهم كما سيأتى.وقوله تعالى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ... إلى قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ...بيان للميثاق وتفصيل له. وجاء التعبير بقوله تعالى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ في صورة الخبر المنفي والمراد منه النهى عن عبادة غير الله، لإفادة المبالغة والتأكيد، فكأن الأمر والنهى قد امتثلا فيخبر بوقوعها، أو أنهما لأهمّيّتهما يخبر عنهما بأنهما سيتلقيان بحسن الطاعة حتما، فينزل ما يجب وقوعه منزلة الواقع، ويخبر عن المأمور بأنه فاعل لما أمر به ومجتنب لما نهى عنه في الحال، وفي ذلك ما فيه من إفادة المبالغة في وجوب امتثال الأمر والنهى.وقد تضمنت الآية الكريمة لونا فريدا من التوجيه المحكم الذي لو اتبعوه لحسنت صلتهم مع الخالق والمخلوق، لأنها ابتدأت بأمرهم بأعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله- تعالى- عليهم، بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم ثنت ببيان حقوق الناس فبدأت بأحقهم بالإحسان وهما الوالدان لما لهما من فضل الولادة والعطف والتربية، ثم الأقارب الذين تجمع الناس بهم صلة قرابة من جهة الأب والأم، ورعايتهم تكون بالقيام بما يحتاجون إليه على قدر الاستطاعة، ثم باليتامى لأنهم في حاجة إلى العون بعد أن فقدوا الأب الحانى، ثم بالمساكين لعجزهم عن كسب ما يكفيهم، ثم بالإحسان إلى سائر الناس عن طريق الكلمة الطيبة، والمعاملة الحسنة، لأن الناس إن لم يكونوا في حاجة إلى المال، فهم في حاجة إلى حسن المقال، ثم أرشدتهم إلى العبادات التي تعينهم على إحسان صلتهم بالخالق والمخلوق فأمرتهم بالمداومة على الصلاة بخشوع وإخلاص، وبالمحافظة على أداء الزكاة بسخاء وطيب خاطر، ولعظم شأن هاتين العبادتين البدنية والمالية ذكرتا على وجه خاص بعد الأمر بعبادة الله، تفخيما لشأنهما وتوكيدا لأمرهما، وكان من الواجب على بنى إسرائيل أن ينتفعوا بهذه الأوامر الحكيمة، لكنهم عموا وصموا عنها فوبخهم القرآن الكريم بقوله: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.أى: ثم توليتم- أيها اليهود- عن جميع ما أخذ عليكم من مواثيق فأشركتم بالله وعققتم الوالدين، وأسأتم إلى الأقارب واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش الأقوال، وتركتم الصلاة، ومنعتم الزكاة، وقطعتم ما أمر الله به أن يوصل.وقوله تعالى: إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ إنصاف لمن حافظ على العهد منهم، حيث إنه لا تخلو أمة من المخلصين الذين يرعون العهود، ويتبعون الحق، وإرشاد للناس إلى أن وجود عدد قليل من المخلصين في الأمة، لا يمنع نزول العقاب بها متى فشا المنكر في الأكثرين منها.وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جملة حالية تفيد أن الأعراض عن الطاعة، وعدم التقيد بالمواثيق التي أقروا بها، عادة متأصلة فيهم ووصف ثابت لهم، وسجية معروفة منهم.قال صاحب المنار: «قد يتولى الإنسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على طول الدوام، لذلك كان ذكر هذا القيد «وأنتم معرضون لازما لا بد منه، وليس تكرارا كما يتوهم، ثم قال: وقد كان سبب ذلك التولي مع الإعراض أن الله أمرهم ألا يأخذوا الدين إلا من كتابه فاتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، يحلون برأيهم ويحرمون، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون ويزيدون في الشرائع والأحكام ويضعون ما شاءوا من الشعائر فصدق عليهم أنهم اتخذوا من دونه شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، فإن الله هو الذي يضع الدين وحده وإنما العلماء أدلاء يستعان بهم على فهم كتابه، وما شرع على ألسنة رسله ... »وخلاصة الفرق بين التفسير الذي بدأنا به وبين تفسير صاحب المنار، لقوله تعالى: وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ أن هذه الجملة على التفسير الأول تبين عادة في القوم تأصلت فيهم حتى كأنها سجية، والمعنى: «ثم توليتم، أى أعرضتم وأنتم قوم عادتكم الإعراض. وعلى تفسير صاحب المنار تكون هذه الجملة مبينة. لنوع التولي ومتممة لمعناه: والتفسير الأول- الذي سقناه- أدخل في باب الذم، وأوفى ببيان ما عليه حال اليهود.

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل في التوراة، والميثاق العهد الشديد.لا تعبدون إلا الله قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون) بالياء وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى: وقولوا للناس حسناً معناه ألا تعبدوا فلما حذف أن صار الفعل مرفوعاً، وقرأ أُبي بن كعب: "لا تعبدوا إلا الله على النهي".وبالوالدين إحساناً أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً، براً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى.وذي القربى أي وبذي القرابة، والقربى مصدر كالحسنى.واليتامى جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له.والمساكين يعني الفقراء.وقولوا للناس حسناً "صدقاً وحقاً في شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا صفته ولاتكتموا أمره" هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وابن جريج ومقاتل.وقال سفيان الثوري: "مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.وقيل: هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق.وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسناً بفتح الحاء والسين أي قولاً حسناً.وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم أعرضتم عن العهد والميثاق.إلا قليلاً منكم وذلك أن قوماً منهم آمنوا.وأنتم معرضون كإعراض آبائكم.

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضونفيه عشر مسائل : الأولى : قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل تقدم الكلام في بيان هذه الألفاظ . واختلف في الميثاق هنا ، فقال مكي : هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر . وقيل : هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم وهو قوله : لا تعبدون إلا الله وعبادة الله إثبات توحيده ، وتصديق رسله ، والعمل بما أنزل في كتبه .الثانية : قوله تعالى : لا تعبدون قال سيبويه : لا تعبدون متعلق بقسم ، والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون ، وأجازه المبرد والكسائي والفراء . وقرأ أبي وابن مسعود " لا تعبدوا " على النهي ، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال : " وقوموا ، وقولوا ، وأقيموا ، وآتوا " . وقيل : هو في موضع الحال ، أي أخذنا ميثاقهم موحدين ، أو غير معاندين ، قاله قطرب والمبرد أيضا . وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي " يعبدون " بالياء من أسفل . وقال الفراء والزجاج وجماعة : المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله ، وبأن يحسنوا للوالدين ، وبألا يسفكوا الدماء ، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما ، كقوله تعالى : أفغير الله تأمروني . قال المبرد : هذا خطأ ; لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا ، تقول : وبلد قطعت ، أي رب بلد .قلت : ليس هذا بخطأ ، بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد سيبويه [ هو للشاعر طرفة بن العبد ] :ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلديبالنصب والرفع ، فالنصب على إضمار أن ، والرفع على حذفها .الثالثة : قوله تعالى : وبالوالدين إحسانا أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا . وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد ; لأن النشأة الأولى من عند الله ، والنشء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين ، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال : أن اشكر لي ولوالديك . والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف ، والتواضع لهما ، وامتثال أمرهما ، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما ، وصلة أهل ودهما ، على ما يأتي بيانه مفصلا في " الإسراء " إن شاء الله تعالى .الرابعة : قوله تعالى : وذي القربى عطف ذي القربى على الوالدين . والقربى : بمعنى القرابة ، وهو مصدر كالرجعى والعقبى ، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم . وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة " القتال " إن شاء الله تعالى .الخامسة : قوله تعالى : واليتامى اليتامى عطف أيضا ، وهو جمع يتيم ، مثل ندامى جمع نديم . واليتم في بني آدم بفقد الأب ، وفي البهائم بفقد الأم . وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الأم ، والأول المعروف . وأصله الانفراد ، يقال : صبي يتيم ، أي منفرد من أبيه . وبيت يتيم : أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر . ودرة يتيمة : ليس لها نظير . وقيل : أصله الإبطاء ، فسمي به اليتيم ; لأن البر يبطئ عنه . ويقال : يتم ييتم يتما ، مثل عظم يعظم . ويتم ييتم يتما ويتما ، مثل سمع يسمع ، ذكر الوجهين الفراء . وقد أيتمه الله . ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله ، على ما يأتي بيانه في " النساء " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة . وأشار مالك بالسبابة والوسطى ، رواه أبو هريرة أخرجه مسلم . وخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبد الرحمن عن هصان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان . وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ضم يتيما من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه ألبتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه - قالوا : وما كريمتاه ؟ قال : - عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه ألبتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال : يا رسول الله أو اثنتين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو اثنتين . فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال : هذا والله من غرائب الحديث وغرره .السادسة : السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام ، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة ، لأنهم كانوا يسبون بها ، فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة ; لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد . وتسمى أيضا بالسباحة ، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره ، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت . وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى ، ثم الوسطى أقصر منها ، ثم البنصر أقصر من الوسطى . روى يزيد بن هارون قال : أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت : خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وسأله أبي عن أشياء ، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه . فقوله عليه السلام : ( أنا وهو كهاتين في الجنة ) ، وقوله في الحديث الآخر : ( أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا ) وأشار بأصابعه الثلاث ، فإنما أراد ذكر المنازل والإشراف على الخلق فقال : نحشر هكذا ونحن مشرفون وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة . فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة . وهذا معنى بعيد ; لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة ، ومنازل مختلفة .السابعة : قوله تعالى : والمساكين المساكين عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين ، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم . وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء . روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله - وأحسبه قال - وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر . قال ابن المنذر : وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله .الثامنة : قوله تعالى : وقولوا للناس حسنا نصب على المصدر على المعنى ; لأن المعنى ليحسن قولكم . وقيل : التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن ، فهو مصدر لا على المعنى . وقرأ حمزة والكسائي " حسنا " بفتح الحاء والسين . قال الأخفش : هما بمعنى واحد ، مثل البخل والبخل ، والرشد والرشد . وحكى الأخفش : " حسنى " بغير تنوين على فعلى . قال النحاس : " وهذا لا يجوز في العربية ، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام ، نحو الفضلى والكبرى والحسنى ، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر " حسنا " بضمتين ، مثل " الحلم " . قال ابن عباس : المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها . ابن جريج : قولوا للناس صدقا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغيروا نعته . سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر . أبو العالية : قولوا لهم الطيب من القول ، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به . وهذا كله حض على مكارم الأخلاق ، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر ، والسني والمبتدع ، من غير مداهنة ، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه ; لأن الله تعالى قال لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا . فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون ، والفاجر ليس بأخبث من فرعون ، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه . وقال طلحة بن عمر : قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة ، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ ، فقال : لا تفعل ! يقول الله تعالى : وقولوا للناس حسنا . فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة : لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء . وقيل : أراد بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم ، كقوله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله . فكأنه قال : قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم حسنا . وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله : وقولوا للناس حسنا منسوخ بآية السيف . وحكاه أبو نصر عبد الرحيم عن ابن عباس . قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف . قال ابن عطية : وهذا يدل على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام ، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه ، والله أعلم .التاسعة : قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة تقدم القول فيه . والخطاب لبني إسرائيل . قال ابن عطية : وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل ، ولا تنزل على ما لم يتقبل ، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم .قلت : وهذا يحتاج إلى نقل ، كما ثبت ذلك في الغنائم . وقد روي عن ابن عباس أنه قال : الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص .العاشرة : قوله تعالى : ثم توليتم الخطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم ، كما قال :شنشنة أعرفها من أخزم. [ رجز لأبي أخزم الطائي ]إلا قليلا كعبد الله بن سلام وأصحابه . وقليلا نصب على الاستثناء ، والمستثنى عند سيبويه منصوب ; لأنه مشبه بالمفعول . وقال محمد بن يزيد : هو مفعول على الحقيقة ، المعنى استثنيت قليلا .وأنتم معرضون ابتداء وخبر . والإعراض والتولي بمعنى واحد ، مخالف بينهما في اللفظ . وقيل : التولي فيه بالجسم ، والإعراض بالقلب . قال المهدوي : وأنتم معرضون حال ; لأن التولي فيه دلالة على الإعراض .
ex