سورة البقرة : الآية 45

تفسير الآية 45 سورة البقرة

وَٱسْتَعِينُوا۟ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

واستعينوا في كل أموركم بالصبر بجميع أنواعه، وكذلك الصلاة. وإنها لشاقة إلا على الخاشعين.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«واستعينوا» اطلبوا المعونة على أموركم «بالصبر» الحبس للنفس على ما تكره «والصلاة» أفردها بالذكر تعظيما لشأنها وفي الحديث (كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة) وقيل الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة فأمروا بالصبر وهو الصوم لأنه يكسر الشهوة والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر «وإنها» أي الصلاة «لكبيرة» ثقيلة «إلا على الخاشعين» الساكنين إلى الطاعة.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها, والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور, ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان, وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور وَإِنَّهَا أي: الصلاة لَكَبِيرَةٌ أي: شاقة إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده يوجب له فعلها, منشرحا صدره لترقبه للثواب, وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك, فإنه لا داعي له يدعوه إليها, وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

يقول تعالى آمرا عبيده ، فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة ، بالاستعانة بالصبر والصلاة ، كما قال مقاتل بن حيان في تفسير هذه الآية : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض ، والصلاة .فأما الصبر فقيل : إنه الصيام ، نص عليه مجاهد .[ قال القرطبي وغيره : ولهذا سمي رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث ] .وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن جري بن كليب ، عن رجل من بني سليم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصوم نصف الصبر .وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها : فعل الصلاة .قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله .[ قال ] وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر .وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة عن مالك بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قال : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب فيه ، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو يتجلد ، لا يرى منه إلا الصبر .وقال أبو العالية في قوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) على مرضاة الله ، واعلموا أنها من طاعة الله .وأما قوله : ( والصلاة ) فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر ، كما قال تعالى : ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) الآية [ العنكبوت : 45 ] .وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبد الله الدؤلي ، قال : قال عبد العزيز أخو حذيفة ، قال حذيفة ، يعني ابن اليمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . ورواه أبو داود [ عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي ] .وقد رواه ابن جرير ، من حديث ابن جريج ، عن عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبيد بن أبي قدامة ، عن عبد العزيز بن اليمان ، عن حذيفة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .[ ورواه بعضهم عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة ؛ ويقال : أخي حذيفة مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا سهل بن عثمان أبو مسعود العسكري ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال : قال عكرمة بن عمار : قال محمد بن عبد الله الدؤلي : قال عبد العزيز : قال حذيفة : رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه أمر صلى . وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا يقول : لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح ] .قال ابن جرير : وروي عنه ، عليه الصلاة والسلام ، أنه مر بأبي هريرة ، وهو منبطح على بطنه ، فقال له : اشكنب درد [ قال : نعم ] قال : قم فصل فإن الصلاة شفاء [ ومعناه : أيوجعك بطنك ؟ قال : نعم ] . قال ابن جرير : وقد حدثنا محمد بن العلاء ويعقوب بن إبراهيم ، قالا حدثنا ابن علية ، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه : أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر ، فاسترجع ، ثم تنحى عن الطريق ، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) .وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جرير : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال : إنهما معونتان على رحمة الله .والضمير في قوله : ( وإنها ) عائد إلى الصلاة ، نص عليه مجاهد ، واختاره ابن جرير .ويحتمل أن يكون عائدا على ما يدل عليه الكلام ، وهو الوصية بذلك ، كقوله تعالى في قصة قارون : ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ) [ القصص : 80 ] وقال تعالى : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) [ فصلت : 34 ، 35 ] أي : وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا ( وما يلقاها ) أي : يؤتاها ويلهمها ( إلا ذو حظ عظيم )وعلى كل تقدير ، فقوله تعالى : ( وإنها لكبيرة ) أي : مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين . قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المصدقين بما أنزل الله . وقال مجاهد : المؤمنين حقا . وقال أبو العالية : إلا على الخاشعين الخائفين ، وقال مقاتل بن حيان : إلا على الخاشعين يعني به المتواضعين . وقال الضحاك : ( وإنها لكبيرة ) قال : إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته ، الخائفين سطواته ، المصدقين بوعده ووعيده .وهذا يشبه ما جاء في الحديث : لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه .وقال ابن جرير : معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب ، بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر ، المقربة من رضا الله ، العظيمة إقامتها إلا على المتواضعين لله المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته .هكذا قال ، والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل ، فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص ، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم . والله أعلم .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

قوله تعالى : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) الاستعانة : طلب المعونة ، والصبر حبس النفس على ما نكره . يقال : صبر على الطاعة . أي حبس نفسه عليها متحملا ما يلاقيه في أدائها من مشاق وصبر عن المعصية . أي كف نفسه عما تنزع إليه من أهواء .والمعنى : واستعينوا على ترك ما تحبون من شهوات الدنيا ، والدخول فيما تستثقله نفوسكم من قبول الإِسلام ، والتقيد بتكاليفه بفضيلة الصبر التي تحجز أنفسكم من غشيان الموبقات ، وبفريضة الصلاة التي تنهاكم عن الفحشاء والمنكر .قوله تعالى : ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين ) كبيرة : أي صعبة شاقة . يقال كبر الشيء إذا شق وثقل ، ومنه قوله تعالى : ( كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) أي ثقل وصعب - والخاشعين : من الخشوع وهو في الأصل اللين والسهولة " ومعناه في الآية الكريمة . الخضوع والاستكانة لله تعالى ، والضمير في - إنها - للصلاة لعظيم شأنها واستجماعها لضربوا من الصبر ، والاستثناء مفرغ . أي كبيرة على كل الناس إلا على الخاشعين .والمعنى : إن الصلاة صعبة إلا على الخاضعين المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله تعالى لأنهم موقنون أنها من أهم وسائل الفلاح في الدنيا ، والسعادة في الآخرة ، ولأنهم يجدون عند أدائها اغتباطاً وسروراً يجعل نفوسهم تنشط إليها كلما حل وقتها بهمة وإخلاص .قال الإِمام الرازي : " فإن قيل : إن كانت ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين ، فيجب أن يكون ثوابهم أكثر ، وثواب الخاشع أقل ، وذلك منكر من القول؟ قلنا : ليس المراد أن الذي يلحقهم من التعب أكثر مما يلحق الخاشع . وكيف يكون ذلك ، والخاشع يستعمل في الصلاة جوارحه وقلبه ، ولا يغفل فيها؛ وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه يفعل الصلاة أعظم . وإنما المراد بقوله تعالى : ( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ) أي ثقيلة على غير الخاشع؛ لأنه لا يعتقد في فعلها ثواباً ، ولا في تركها عقاباً ، فيصعب عليه فعلها ، فالحاصل أن الملحد لاعتقاده عدم المنفعة في أدائها ثقل عليه فعلها ، لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع . أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع ، وفي تركها أكبر المضار ، لم يثقل عليه أداؤها . بل أداها وهو سعيد بها ، ألا ترى إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " جعلت قرة عيني في الصلاة " وصفها بذلك لأنها كانت لا تثقل عليه .

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

واستعينوا على ما يستقبلكم من أنواع البلاء.وقيل: على طلب الآخرة.بالصبر والصلاة أراد حبس النفس عن المعاصي.وقيل: أراد: الصبر على أداء الفرائض.وقال مجاهد: "الصبر الصوم، ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر، وذلك لأن الصوم يزهده في الدنيا، والصلاة ترغبه في الآخرة".وقيل: الواو بمعنى على، أي: واستعينوا بالصبر على الصلاة، كما قال الله تعالى: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها [132-طه].وإنها ولم يقل وإنهما رداً للكناية إلى كل واحد منهما أي وإن كل خصلة منها.كما قال: كلتا الجنتين آتت أكلها [33-الكهف] أي كل واحدة منهما.وقيل: معناه واستعينوا بالصبر وإنه لكبير وبالصلاة وإنها لكبيرة، فحذف أحدهما اختصاراً، وقال المؤرج: "رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم كقوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها [34-التوبة] رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم".وقيل: رد الكناية إلى الصلاة لأن الصبر داخل فيها. كما قال الله تعالى: والله ورسوله أحق أن يرضوه[62-التوبة] ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله تعالى.وقال الحسين بن الفضل: "رد الكناية إلى الاستعانة".لكبيرة أي: لثقيلة.إلا على الخاشعين يعني: المؤمنين.وقال الحسن: "الخائفين".وقيل: المطيعين.وقال مقاتل بن حيان: "المتواضعين".وأصل الخشوع السكون قال الله تعالى: وخشعت الأصوات للرحمن [108-طه] فالخاشع ساكن إلى طاعة الله تعالى.

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعينفيه ثمان مسائل : الأولى : قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الصبر الحبس في اللغة وقتل فلان صبرا أي أمسك وحبس حتى أتلف وصبرت نفسي على الشيء حبستها والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت وهي المجثمة وقال عنترةفصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلعالثانية : أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال واصبروا يقال فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل قال النحاس ولا يقال لمن صبر على المصيبة صابر إنما يقال صابر على كذا فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .الثالثة : قوله تعالى : والصلاة خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها ، وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم وقيل بنت له وهو في سفر فاسترجع وقال ( عورة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجر ساقه الله . ثم تنحى عن الطريق وصلى ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : واستعينوا بالصبر والصلاة ) فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية وقال قوم : هي الدعاء على عرفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ؛ لأن الثبات هو الصبر والذكر هو الدعاء . وقول ثالث قال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصوم ، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا ، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة ، والله أعلم .الرابعة : الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها ، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين قال يحيى بن اليمان الصبر ألا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد قال الطبري وصدق علي رضي الله عنه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به .الخامسة : وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة الآية وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وقال ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور وقد قيل إن المراد بالصابرين في قوله إنما يوفى الصابرون أي الصائمون لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم الصيام لي وأنا أجزي به فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر والله أعلم .السادسة : من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولدا ، وإنه ليعافيهم ويرزقهم أخرجه البخاري قال علماؤنا وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قاله ابن فورك وغيره وجاء في أسمائه " الصبور " للمبالغة في الحلم عمن عصاهالسابعة : قوله تعالى : وإنها لكبيرة اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله : وإنها ، فقيل : على الصلاة وحدها خاصة ؛ لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم ، والصبر هنا الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس ، والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الأشياء عما منع والمصلي يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات ، وإذا كان ذلك ، كانت الصلاة أصعب على النفس ، ومكابدتها أشد ؛ فلذلك قال وإنها لكبيرة وقيل عليهما ولكنه كنى عن الأغلب ، وهو الصلاة كقوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله وقوله وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها فرد الكناية إلى الفضة ؛ لأنها الأغلب والأعم ، وإلى التجارة ؛ لأنها الأفضل والأهم ، وقيل : إن الصبر لما كان داخلا في الصلاة أعاد عليها كما قال والله ورسوله أحق أن يرضوه ولم يقل يرضوهما ؛ لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ، ومنه قول الشاعر [ حسان بن ثابت ]إن شرح الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنوناولم يقل يعاصيا رد إلى الشباب ؛ لأن الشعر داخل فيه ، وقيل : رد الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصارا ; قال الله تعالى وجعلنا ابن مريم وأمه آية ولم يقل آيتين ، ومنه قول الشاعر [ ضابئ البرجمي ]فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريبوقال آخر [ الأضبط بن قريع السعدي ] :لكل هم من الهموم سعه والصبح والمسي لا فلاح معهأراد : لغريبان ، لا فلاح معهما وقيل على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة ، وقيل على المصدر ، وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله واستعينوا وقيل : على إجابة محمد عليه السلام ; لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه ، وقيل على الكعبة ؛ لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها وكبيرة معناه ثقيلة شاقة ، خبر " إن " ويجوز في غير القرآن : وإنه لكبيرة . إلا على الخاشعين فإنها خفيفة عليهم قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى .الثامنة : قوله تعالى : على الخاشعين الخاشعون جمع خاشع ، وهو المتواضع ، والخشوع هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع وقال قتادة الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة قال الزجاج : الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء هذا هو الأصل قال النابغة :رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشعومكان خاشع : لا يهتدى له . وخشعت الأصوات أي سكنت وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا وخشع ببصره إذا غضه والخشعة قطعة من الأرض رخوة ، وفي الحديث كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد وبلدة خاشعة مغبرة لا منزل بها قال سفيان الثوري سألت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال أعيمش تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض افترض عليك ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا ارفع رأسك ( فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب . ) وقال علي بن أبي طالب : ( الخشوع في القلب ، وأن تلين كفيك للمرء المسلم ، وألا تلتفت في صلاتك . ) وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق قال سهل بن عبد الله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم .قلت : هذا هو الخشوع المحمود ؛ لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان ، روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الخاشعون هم المؤمنون حقا .
ex