سورة البقرة : الآية 35

تفسير الآية 35 سورة البقرة

وَقُلْنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

وقال الله: يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، وتمتعا بثمارها تمتعًا هنيئًا واسعًا في أي مكان تشاءان فيها، ولا تقربا هذه الشجرة حتى لا تقعا في المعصية، فتصيرا من المتجاوزين أمر الله.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«وقلنا يا آدم اسكن أنت» تأكيد للضمير المستتر ليعطف عليه «وزوجك» حواء بالمد وكان خلقها من ضلعه الأيسر «الجنة وكلا منها» أكلاً «رغداً» واسعا لاحجر فيه «حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة» بالأكل منها وهى الحنطة أو الكرم أو غيرهما «فتكونا» فتصيرا «من الظالمين» العاصين.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والأكل منها رغدا; أي: واسعا هنيئا، حَيْثُ شِئْتُمَا أي: من أصناف الثمار والفواكه; وقال الله له: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ نوع من أنواع شجر الجنة; الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء [أو لحكمة غير معلومة لنا] فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ دل على أن النهي للتحريم; لأنه رتب عليه الظلم.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم : بعد أن أمر الملائكة بالسجود له ، فسجدوا إلا إبليس : إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ، ويأكل منها ما شاء رغدا ، أي : هنيئا واسعا طيبا .وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، من حديث محمد بن عيسى الدامغاني ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ميكائيل ، عن ليث ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر : قال : قلت : يا رسول الله ؛ أريت آدم ، أنبيا كان ؟ قال : نعم ، نبيا رسولا كلمه الله قبلا فقال : ( اسكن أنت وزوجك الجنة ) .وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم ، أهي في السماء أم في الأرض ؟ والأكثرون على الأول [ وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض ] ، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف ، إن شاء الله تعالى ، وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة ، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق ، حيث قال : لما فرغ الله من معاتبة إبليس ، أقبل على آدم وقد علمه الأسماء كلها ، فقال : ( يا آدم أنبئهم بأسمائهم ) إلى قوله : ( إنك أنت العليم الحكيم ) قال : ثم ألقيت السنة على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن ابن عباس وغيره - ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ، ولأم مكانه لحما ، وآدم نائم لم يهب من نومه ، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء ، فسواها امرأة ليسكن إليها . فلما كشف عنه السنة وهب من نومه ، رآها إلى جنبه ، فقال - فيما يزعمون والله أعلم - : لحمي ودمي وروحي . فسكن إليها . فلما زوجه الله ، وجعل له سكنا من نفسه ، قال له قبلا ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )ويقال : إن خلق حواء كان بعد دخوله الجنة ، كما قال السدي في تفسيره ، ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : أخرج إبليس من الجنة ، وأسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليه ، فنام نومة فاستيقظ ، وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها : ما أنت ؟ قالت : امرأة . قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إلي . قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ من علمه - : ما اسمها يا آدم ؟ قال : حواء . قالوا : ولم سميت حواء ؟ قال : إنها خلقت من شيء حي . قال الله : ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما )وأما قوله : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم . وقد اختلف في هذه الشجرة : ما هي ؟فقال السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم - عليه السلام - هي الكرم . وكذا قال سعيد بن جبير ، والسدي ، والشعبي ، وجعدة بن هبيرة ، ومحمد بن قيس .وقال السدي - أيضا - في خبر ذكره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) هي الكرم . وتزعم يهود أنها الحنطة .وقال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي ، حدثنا أبو يحيى الحماني ، حدثنا النضر أبو عمر الخراز ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الشجرة التي نهي عنها آدم - عليه السلام - هي السنبلة .وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : هي السنبلة .وقال محمد بن إسحاق ، عن رجل من أهل العلم ، عن حجاج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : هي البر .وقال ابن جرير : وحدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا القاسم ، حدثنيرجل من بني تميم ، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم ، والشجرة التي تاب عندها آدم . فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم ، عليه السلام ، وهي السنبلة ، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة .وكذلك فسره الحسن البصري ، ووهب بن منبه ، وعطية العوفي ، وأبو مالك ، ومحارب بن دثار ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى .وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل اليمن ، عن وهب بن منبه : أنه كان يقول : هي البر ، ولكن الحبة منها في الجنة ككلى البقر ، ألين من الزبد وأحلى من العسل .وقال سفيان الثوري ، عن حصين ، عن أبي مالك : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) قال : النخلة .وقال ابن جرير ، عن مجاهد : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) قال : تينة . وبه قال قتادة وابن جريج .وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : كانت الشجرة من أكل منها أحدث ، ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث ، وقال عبد الرزاق : حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهرب قال : سمعت وهب بن منبه يقول : لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ، ونهاه عن أكل الشجرة ، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض ، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم ، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته .فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة .قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : والصواب في ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة ، دون سائر أشجارها ، فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ؟ لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة . وقد قيل : كانت شجرة البر . وقيل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين . وجائز أن تكون واحدة منها ، وذلك علم ، إذا علم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به ، والله أعلم . [ وكذلك رجح الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، وهو الصواب ] .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

وقوله - تعالى - ( وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة ) معطوف على قوله ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ . . . إلخ ) أي : بعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم ، قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فهذه تكرمه أكره الله بها بعد أن أكرمه بكرامة الإِجلال من تلقاء الملائكة .وقوله : ( اسكن ) أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن على وجه الاستقرار .والزوج : يطلق على الرجل والمرأة والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ، ولا تكاد تقول زوجة .والجنة : هي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره ، من الجن ، وهو ستر الشيء عن الحاسة .وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب . التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإِطلاق .ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإِسكان آدم وزوجه ، واختلفوا في مكانه ، فقيل بفلسطين . وقيل بغيرها .وقد ساق الإِمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئاً منها .والأحوط والأسلم : الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة .والمخاطب بالأمر ، بسكنى الجنة آدم وحواء ، ولكن الأسلوب جاء في صيغة الخطاب لآدم وعطفت عليه زوجه ، لأنه هو المقصود بالأمر وزوجه تبع له .ثم بين - سبحانه - أنه قد أباح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة أكلا واسعا فقال : ( وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ) أي كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا هنيئاً أو واسعاً في أي مكان من الجنة أردتم .يقال : رغد عيش القوم أي : اتسع وطاب ، وأرغد القوم ، أي : اخصبوا وصاروا في رزق واسع .والضمير في قوله ( مِنْهَا ) يعود إلى الجنة ، والمراد بالأكل منها : الأكل من مطاعمها وثمارها ، لأن الجنة تستلزم ثماراً هي المقصودة بالأكل .ثم بين - سبحانه - أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : ( وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين ) .القرب : الدنو ، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة ، وتعليق النهي بالقرب منها إذ قال ( وَلاَ تَقْرَبَا ) القصد منه المبالغة في النهي عن الأكل ، إذ في النهي عن القرب من الشيء قطع لوسيلة التلبس سبه ، كما قال تعالى : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى ) فنهى عن القرب من الزنا ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه وهي القرب منه . وأكد النبي بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلماً فقال : ( فَتَكُونَا مِنَ الظالمين ) وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية .وقد تكلم العلماء كثيراً عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة ، وقيل : هي السنبلة ، وقيل هي الكرم . . الخ . إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه .وقد أحسن الإِمام ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال : " والصواب في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى - نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة يعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل كانت شجرة العنب . وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به .

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله تعالى: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وذلك أن آدم لم يكن له في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق الله زوجته حواء من قصيراء من شقه الأيسر، وسميت حواء لأنها خلقت من حي، خلقها الله عز وجل من غير أن أحس به آدم ولا وجد له ألماً، ولو وجد ألماً لما عطف رجل على امرأة قط فلما هب من نومه رآها جالسة عند رأسه (كأحسن ما في) خلق الله فقال لها: من أنتِ؟، قالت: زوجتك خلقني الله لك تسكن إلي وأسكن إليك.وكلا منها رغداً واسعاً كثيراً.حيث شئتما كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما.ولا تقربا هذه الشجرة يعني للأكل، وقال بعض العلماء: وقع النهي على جنس من الشجر.وقال آخرون: على شجرة مخصوصة، واختلفوا في تلك الشجرة.قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومقاتل: "هي السنبلة".وقال ابن مسعود: "هي شجرة العنب".وقال ابن جريج: "شجرة التين".وقال قتادة: "شجرة العلم وفيها من كل شيء".وقال علي رضي الله عنه: "شجرة الكافور".فتكونا فتصيرا.من الظالمين أي: الضارين بأنفسكما بالمعصية.وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فيه ثلاث عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم : اسكن ، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا ، وهو محل السكون . وسكن إليه يسكن سكونا . والسكن : النار ، قال الشاعر :قد قومت بسكن وأدهانوالسكن : كل ما سكن إليه . والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح ، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته . وسكان السفينة عربي ; لأنه يسكنها عن الاضطراب .الثانية : في قوله تعالى : اسكن - تنبيه على الخروج ; لأن السكنى لا تكون ملكا ، ولهذا قال بعض العارفين : السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع ، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة .قلت : وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء : إن من أسكن رجلا مسكنا له إنه لا يملكه بالسكنى ، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان . وكان الشعبي يقول : إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته ، وإذا قال : داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات . ونحو من السكنى العمرى ، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى . وسيأتي الكلام في العمرى في " هود " إن شاء الله تعالى . قال الحربي : سمعت ابن الإعرابي يقول : لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والإفقار والإخبال والمنحة والعرية والسكنى والإطراق . وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرقاب ، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد ، ويزيد بن قسيط .والعمرى : هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره . ومثله الرقبى : وهو أن يقول : إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك ، وهي من المراقبة . والمراقبة : أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه ، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها ، فأجازها أبو يوسف والشافعي ، وكأنها وصية عندهم . ومنعها مالك والكوفيون ; لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له ، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه . وفي الباب حديثان أيضا بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجه في سننه : الأول رواه جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم . الثاني رواه ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته . قال : والرقبى أن يقول هو للآخر : مني ومنك موتا . فقوله : ( لا رقبى ) نهي يدل على المنع ، وقوله : من أرقب شيئا فهو له يدل على الجواز ، وأخرجهما أيضا النسائي . وذكر عن ابن عباس قال : العمرى والرقبى سواء . وقال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها . فقد صحح الحديث ابن المنذر ، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء . وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد ، وأنها لا ترجع إلى الأول أبدا ، وبه قال إسحاق . وقال طاوس : من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث .والإفقار مأخوذ من فقار الظهر . أفقرتك ناقتي : أعرتك فقارها لتركبها . وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه . ومثله الإخبال ، يقال : أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه ، قال زهير :هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلواوالمنحة : العطية . والمنحة : منحة اللبن . والمنيحة : الناقة أو الشاة يعطيها الرجل آخر يحتلبها ثم يردها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم . رواه أبو أمامة ، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما ، وهو صحيح . والإطراق : إعارة الفحل ، استطرق فلان فلانا فحله : إذا طلبه ليضرب في إبله ، فأطرقه إياه ، ويقال : أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي . وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها . وطروقة الفحل : أنثاه ، يقال : ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل .الثالثة : قوله تعالى : أنت وزوجك أنت تأكيد للمضمر الذي في الفعل ، ومثله : فاذهب أنت وربك . ولا يجوز اسكن وزوجك ، ولا اذهب وربك ، إلا في ضرورة الشعر ، كما قال :قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملاف " زهر " معطوف على المضمر في " أقبلت " ولم يؤكد ذلك المضمر . ويجوز في غير القرآن على بعد : قم وزيد .الرابعة : قوله تعالى : وزوجك لغة القرآن " زوج " بغير هاء ، وقد جاء في صحيح مسلم : " زوجة " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال : يا فلان هذه زوجتي فلانة : فقال يا رسول الله ، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم . وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام ، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك ، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته ، فلما انتبه قيل له : من هذه ؟ قال : امرأة قيل : وما اسمها ؟ قال : حواء ، قيل : ولم سميت امرأة ؟ قال : لأنها من المرء أخذت ، قيل : ولم سميت حواء ؟ قال : لأنها خلقت من حي . روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه ، وأنهم قالوا له : أتحبها يا آدم ؟ قال : نعم ، قالوا لحواء : أتحبينه يا حواء ؟ قالت : لا ، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه . قالوا : فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء . وقال ابن مسعود وابن عباس : لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا ، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها ، فلما انتبه رآها فقال : من أنت ؟ قالت : امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي ، وهو معنى قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها . قال العلماء : ولهذا كانت المرأة عوجاء ، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية : وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه - لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها . وقال الشاعر :هي الضلع العوجاء ليست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتىأليس عجيبا ضعفها واقتدارهاومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال في اللحية والثدي والمبال بنقص الأعضاء . فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل - روي ذلك عن علي رضي الله عنه - لخلق حواء من أحد أضلاعه ، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى .الخامسة : قوله تعالى : الجنة الجنة : البستان ، وقد تقدم القول فيها . ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن . واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس ، فإن الله يقول : لا لغو فيها ولا تأثيم وقال لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا وقال : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما . وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله : وما هم منها بمخرجين . وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس ، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها . وقد لغا فيها إبليس وكذب ، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما .قالوا : وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى ؟ فالجواب : أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام ، ومن قال : أسأل الله الجنة ، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد . ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم ، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى : أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة ، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة ، فلم ينكر ذلك آدم ، ولو كانت غيرها لرد على موسى ، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها . وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة ، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء . وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها ، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية ، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا . وأما قولهم : إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم ، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام ، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي ، وكذلك دار القدس . قال أبو الحسن بن بطال : وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام ، فلا معنى لقول من خالفهم . وقولهم : كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد ، فيعكس عليهم ويقال : كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء ! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل ، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا ، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي .السادسة : قوله تعالى : وكلا منها رغدا حيث شئتما قراءة الجمهور رغدا بفتح الغين . وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها . والرغد : العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه ، قال امرؤ القيس :بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغدويقال : رغد عيشهم ورغد ( بضم الغين وكسرها ) . وأرغد القوم : أخصبوا وصاروا في رغد من العيش . وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف ، وحيث وحيث وحيث ، وحوث وحوث وحاث ، كلها لغات ، ذكرها النحاس وغيره .السابعة : قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة أي لا تقرباها بأكل ; لأن الإباحة فيه وقعت . قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول : إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان ( بضم الراء ) فإن معناه لا تدن منه . وفي الصحاح : قرب الشيء يقرب قربا أي دنا . وقربته ( بالكسر ) أقربه قربانا أي دنوت منه . وقربت أقرب قرابة مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة ، والاسم القرب . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب ؟ فقال : سير الليل لورد الغد . وقال ابن عطية : قال بعض الحذاق : إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب . قال ابن عطية : وهذا مثال بين في سد الذرائع . وقال بعض أرباب المعاني : قوله : ولا تقربا إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة ، وأن سكناه فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى . والدليل على هذا قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة فدل على خروجه منها .الثامنة : قوله تعالى : هذه الشجرة الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير ، كقولك : مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة . وقرأ ابن محيصن : " هذي الشجرة " بالياء وهو الأصل ، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها ، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها ، وذلك لأن أصلها الياء .والشجرة والشجرة والشيرة ، ثلاث لغات وقرئ " الشجرة " بكسر الشين . والشجرة : ما كان على ساق من نبات الأرض . وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار ، وواد شجير ، ولا يقال : واد أشجر . وواحد الشجراء شجرة ، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة : شجرة وشجراء ، وقصبة وقصباء ، وطرفة وطرفاء ، وحلفة وحلفاء . وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء : حلفة ، بكسر اللام مخالفة لأخواتها . وقال سيبويه : الشجراء واحد وجمع ، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء . والمشجرة : موضع الأشجار . وأرض مشجرة ، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا ، قاله الجوهري .التاسعة : واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها ، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة : هي الكرم ، ولذلك حرمت علينا الخمر . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة : هي السنبلة ، والحبة منها ككلى البقر ، أحلى من العسل وألين من الزبد ، قاله وهب بن منبه . ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه . وقال ابن جريج عن بعض الصحابة : هي شجرة التين ، وكذا روى سعيد عن قتادة ، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها ، ذكره السهيلي . قال ابن عطية : وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها . وقال القشيري أبو نصر : وكان الإمام والدي رحمه الله يقول : يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة .العاشرة : واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى : فتكونا من الظالمين ، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها ، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر . قال ابن العربي : وهي أول معصية عصي الله بها على هذا القول . قال : " وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث . وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا : لا حنث فيه . وقال مالك وأصحابه : إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه ، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره ، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها ، فحمل القول على اللفظ دون المعنى .وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا ، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين ، قال في الكتاب : يحنث ; لأنها هكذا تؤكل . وقال ابن المواز : لا شيء عليه ; لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة . ولو قال في يمينه : لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها وفيما اشترى بثمنها من طعام ، وفيما أنبتت خلاف . وقال آخرون : تأولا النهي على الندب . قال ابن العربي : وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك هاهنا ، لقوله : فتكونا من الظالمين فقرن النهي بالوعيد ، وكذلك قوله سبحانه : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . وقال ابن المسيب : إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله . وكذلك قال يزيد بن قسيط ، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل . قال ابن العربي : وهذا فاسد نقلا وعقلا ، أما النقل فلم يصح بحال ، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال : لا فيها غول . وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم . قلت : قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى : فلما أنبأهم بأسمائهم فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز . وقيل : أكلها ناسيا ، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد . قلت : وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا ، أي مخالفا . قال أبو أمامة : لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله تعالى : ولم نجد له عزما .قلت : قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم . وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا . وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء . والله أعلم .قلت : والقول الأول أيضا حسن ، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال : هذان حرامان على ذكور أمتي . وقال في خبر آخر : هذان مهلكان أمتي . وإنما أراد الجنس لا العين .الحادية عشرة : يقال : إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة ، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء ، فقال : ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد ، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد ، فأتاهما من حيث أحبا - " حبك الشيء يعمي ويصم " - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد ، فألح على حواء وألحت حواء على آدم ، إلى أن قالت : أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت ، فأكلت فلم يضرها ، فأتت آدم فقالت : كل فإني قد أكلت فلم يضرني ، فأكل فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب ، لقول الله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة فجمعهما في النهي ، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا ، وخفيت على آدم هذه المسألة ، ولهذا قال بعض العلماء : إن من قال لزوجتيه أو أمتيه : إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان - إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما . وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال ، قال ابن القاسم : لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول ، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ . وقاله سحنون . وقال ابن القاسم مرة أخرى : تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما ; لأن بعض الحنث حنث ، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما . وقال أشهب : تعتق وتطلق التي دخلت وحدها ; لأن دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها . قال ابن العربي : وهذا بعيد ; لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا .قلت : الصحيح الأول ، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما ; لأنك إذا قلت : لا تدخلا الدار ، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما ; لأن قول الله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة نهي لهما فتكونا من الظالمين جوابه ، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا ، فلما أكلت لم يصبها شيء ; لأن المنهي عنه ما وجد كاملا . وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم ، وهو معنى قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي وقيل : نسي قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . والله أعلم .الثانية عشرة : واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص إجماعا . عند القاضي أبي بكر ، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة ، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم - ، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين : تقع الصغائر منهم . خلافا للرافضة حيث قالوا : إنهم معصومون من جميع ذلك ، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث ، وهذا ظاهر لا خفاء فيه . وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها ، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم ، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية ، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين . قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : واختلفوا في الصغائر ، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ، وصار بعضهم إلى تجويزها ، ولا أصل لهذه المقالة . وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول : الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات ، بالنسبة إلى مناصبهم وعلو أقدارهم ، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة . قال : وهذا هو الحق . ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين . فهم - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم ، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ، صلوات الله عليهم وسلامه .الثالثة عشرة : قوله تعالى : فتكونا من الظالمين الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه . والأرض المظلومة : التي لم تحفر قط ثم حفرت . قال النابغة .وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينهاوالنؤي كالحوض بالمظلومة الجلدويسمى ذلك التراب الظليم . قال الشاعر :فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مردود عليها ظليمهاوإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم ، ومنه : . . . ظلامون للجزر .ويقال : سقانا ظليمة طيبة ، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه . وقد ظلم وطبه ، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده . واللبن مظلوم وظليم . قال :وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليمورجل ظليم : شديد الظلم . والظلم : الشرك ، قال الله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم .قوله تعالى وكلا منها رغدا حذفت النون من " كلا " لأنه أمر ، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وحذفها شاذ . قال سيبويه : من العرب من يقول أؤكل ، فيتم . يقال منه : أكلت الطعام أكلا ومأكلا . والأكلة ( بالفتح ) : المرة الواحدة حتى تشبع . والأكلة ( بالضم ) : اللقمة ، تقول : أكلت أكلة واحدة ، أي لقمة ، وهي القرصة أيضا . وهذا الشيء أكلة لك ، أي طعمة لك . والأكل أيضا ما أكل . ويقال : فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع . رغدا نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا رغدا . قال ابن كيسان : ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال . وقال مجاهد : رغدا أي لا حساب عليهم . والرغد في اللغة : الكثير الذي لا يعنيك ، ويقال : أرغد القوم ، إذا وقعوا في خصب وسعة . وقد تقدم هذا المعنى . " حيث " مبنية على الضم ; لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف ، فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت . قال الكسائي : لغة قيس وكنانة الضم ، ولغة تميم الفتح . قال الكسائي : وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض ، وينصبونها في موضع النصب ، قال الله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وتضم وتفتح .ولا تقربا هذه الشجرة الهاء من " هذه " بدل من ياء الأصل ; لأن الأصل هذي . قال النحاس : ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلا هاء هذه ومن العرب من يقول : هاتا هند ، ومنهم من يقول : هاتي هند . وحكى سيبويه : هذه هند ، بإسكان الهاء . وحكى الكسائي عن العرب : ولا تقربا هذي الشجرة . وعن شبل بن عباد قال : كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في " هذه " في جميع القرآن . وقراءة الجماعة " رغدا " بفتح الغين . وروي عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكنا الغين . وحكى سلمة عن الفراء قال يقال : هذه فعلت وهذي فعلت ، بإثبات ياء بعد الذال . وهذ فعلت ، بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء . وهاتا فعلت . قال هشام ويقال : تا فعلت . وأنشد :خليلي لولا ساكن الدار لم أقم بتا الدار إلا عابر ابن سبيلقال ابن الأنباري : وتا بإسقاط ها بمنزلة ذي بإسقاط ها من هذي ، وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه . وقد قال الفراء : من قال هذ قامت - لا يسقط ها ; لأن الاسم لا يكون على ذال واحدة .( فتكونا ) عطف على ( تقربا ) فلذلك حذفت النون . وزعم الجرمي أن الفاء هي الناصبة ، وكلاهما جائز .
ex