سورة البقرة : الآية 286

تفسير الآية 286 سورة البقرة

لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ ۖ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ ۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

دين الله يسر لا مشقة فيه، فلا يطلب الله مِن عباده ما لا يطيقونه، فمن فعل خيرًا نال خيرًا، ومن فعل شرّاً نال شرّاً. ربنا لا تعاقبنا إن نسينا شيئًا مما افترضته علينا، أو أخطأنا في فِعْل شيء نهيتنا عن فعله، ربَّنا ولا تكلفنا من الأعمال الشاقة ما كلفته مَن قبلنا من العصاة عقوبة لهم، ربنا ولا تُحَمِّلْنَا ما لا نستطيعه من التكاليف والمصائب، وامح ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأحسن إلينا، أنت مالك أمرنا ومدبره، فانصرنا على مَن جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك، وكذَّبوا نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم، واجعل العاقبة لنا عليهم في الدنيا والآخرة.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) أي ما تسعه قدرتها (لها ما كسبت) من الخير أي ثوابه (وعليها ما اكتسبت) من الشر أي وزره ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوست به نفسه، قولوا (ربنا لا تؤاخذنا) بالعقاب (إن نسينا أو أخطأنا) تركنا الصواب لا عن عمد كما أخذت به من قبلنا وقد رفع الله ذلك عن هذه الأمة كما ورد في الحديث فسؤاله اعتراف بنعمة الله (ربنا ولا تحمل علينا إصراً) أمرا يثقل علينا حمله (كما حملته على الذين من قبلنا) أي بني إسرائيل من قتل النفس في التوبة وإخراج ربع المال في الزكاة وقرض موضع النجاسة (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة) قوة (لنا به) من التكاليف والبلاء (واعف عنا) امح ذنوبنا (واغفر لنا وارحمنا) في الرحمة زيادة على المغفرة (أنت مولانا) سيدنا ومتولي أمورنا (فانصرنا على القوم الكافرين) بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، وفي الحديث "" لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقب كل كلمة قد فعلت "".

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

لما نزل قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير، وعليها ما اكتسبت من الشر، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره، وفي الإتيان ب " كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى ب " اكتسب " في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: قد فعلت. إجابة لهذا الدعاء، فقال ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا والفرق بينهما: أن النسيان: ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا، والخطأ: أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله: فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب، أو نجس، أو قد نسي نجاسة على بدنه، أو تكلم في الصلاة ناسيا، أو فعل مفطرا ناسيا، أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا، فإنه معفو عنه، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر. ربنا ولا تحمل علينا إصرا أي: تكاليف مشقة كما حملته على الذين من قبلنا وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وقد فعل وله الحمد واعف عنا واغفر لنا وارحمنا فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور أنت مولانا أي: ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين، الذين كفروا بك وبرسلك، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر، والحمد لله رب العالمين.تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

وقوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) أي : لا يكلف أحدا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ، في قوله : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) أي : هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه ، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها ، فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان .وقوله : ( لها ما كسبت ) أي : من خير ، ( وعليها ما اكتسبت ) أي : من شر ، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ، ثم قال تعالى مرشدا عباده إلى سؤاله ، وقد تكفل لهم بالإجابة ، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا : ( ربنا لا تؤاخذنا إن [ نسينا ] ) أي : إن تركنا فرضا على جهة النسيان ، أو فعلنا حراما كذلك ، ( أو أخطأنا ) أي : الصواب في العمل ، جهلا منا بوجهه الشرعي .وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة : " قال الله : نعم " ولحديث ابن عباس قال الله : " قد فعلت " .وروى ابن ماجه في سننه ، وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن عطاء قال ابن ماجه في روايته : عن ابن عباس . وقال الطبراني وابن حبان : عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . وقد روي من طرق أخر وأعله أحمد وأبو حاتم والله أعلم . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه " قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .وقوله : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) أي : لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثت نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ، من الدين الحنيف السهل السمح .وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : نعم " .وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : قد فعلت " . وجاء الحديث من طرق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " .وقوله : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) أي : من التكليف والمصائب والبلاء ، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به .وقد قال مكحول في قوله : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : الغربة والغلمة ، رواه ابن أبي حاتم ، " قال الله : نعم " وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .وقوله : ( واعف عنا ) أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، ( واغفر لنا ) أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، ( وارحمنا ) أي : فيما يستقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره . وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم . وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .وقوله : ( أنت مولانا ) أي : أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك ( فانصرنا على القوم الكافرين ) أي : الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ، ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم . وفي الحديث الذي رواه مسلم ، عن ابن عباس : " قال الله : قد فعلت " .وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، أن معاذا ، رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة ( فانصرنا على القوم الكافرين ) قال : آمين .ورواه وكيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل : أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر رحمته بعباده فقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها والوسع- كما يقول الزمخشري-: ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، ولا يحرج فيه، أى لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله. ورحمته كقوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلّى أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويجمع أكثر من حجة .فالجملة الكريمة تحكى لنا بعض مظاهر فضل الله علينا ورحمته بنا، حيث كلفنا بما تسعه قدرتنا، وتستطيعه نفوسنا، وقد حكى القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله- تعالى-:ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وقوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.وإذا كانت بعض التكاليف التي كلفنا الله بها فيها مشقة، فإن هذه المشقة محتملة وفي وسع الإنسان وقدرته وطاقته، وسيثيبنا الله- تعالى- عليها ثوابا جزيلا، فهو القائل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.ثم بين- سبحانه- أن كل نفس ستجازى بما عملت فقال: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أى لها وحدها ثواب ما كسبت من حسنات بسبب أعمالها الصالحة، وعليها وحدها عقاب ما اكتسبت من سيئات بسبب أعمالها القبيحة.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت. في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» .وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: «لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في نفس الإنسان، والإنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذته. ولا يحتاج إلى تكلف في فعل الخير، لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا وأما الشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا من مقتضى فطرتها ومهما كان الإنسان شريرا فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت عند الناس وصاحبه مهين عندهم.. وهكذا شأن الإنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه، ويجد من أعماق سريرته هاتفا يقول له: لا تفعل، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه إلا في النادر..».وبعد بيان سنة الله- تعالى- في التكليف وفي الجزاء عليه، ختم- سبحانه- السورة الكريمة بتلك الدعوات الجامعات للسعادة حتى يكثر المؤمنون من التضرع بها فقال- تعالى-:رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أى: ربنا يا واسع العفو والمغفرة لا تؤاخذنا أى لا تعاقبنا إِنْ نَسِينا أمرك ونهيك أَوْ أَخْطَأْنا ففعلنا خلاف الصواب جهلا منا بوجهه الشرعي.فأنت ترى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم، فصفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وخشعت جوارحهم، يتضرعون إلى الله أن يغفر لهم ما فرط منهم نسيانا أو خطأ، وذلك لأن المؤمن عند ما يصل إلى هذه الدرجة من التقوى والصفاء يشعر بأن الله- تعالى- يحاسبه على مالا حساب عليه، ويشعر بأن حسناته- مهما كثرت- فهي قليلة بجانب هفواته وسيئاته، فهو لشدة خشيته من الله يرجح جانب المؤاخذة على جانب العفو فيكثر من الضراعة والدعاء.وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله: فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت: ... لأنهم كانوا متقين الله حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ. فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به. كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه» .هذا هو الدعاء الأول الذي حكاه القرآن عن المؤمنين الصادقين.أما الدعاء الثاني فهو قوله- سبحانه-: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا.والإصر في اللغة: الثقل والشدة. مأخوذ من أصر بمعنى حبس، فكأنه يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة.والمعنى: أن أولئك يضرعون إلى الله- تعالى- ألا يلقى تكاليف وأعباء شديدة، يثقل عليهم حملها ويعجزون عن أدائها، كما كان الحال بالنسبة للذين سبقوهم فقد كلف الله- تعالى- بنى إسرائيل بتكاليف شاقة ثقيلة بسبب تعنتهم وفسوقهم عن أمره، ومن ذلك تكليفهم بقتل أنفسهم إذا أرادوا أن يتوبوا توبة صادقة، وتحريم بعض الطيبات عليهم بسبب ظلمهم قال- تعالى-: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ....قال الرازي: والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير. والتقصير موجب للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله- تعالى- فلا جرم التمسوا السهولة في التكاليف .أما الدعاء الثالث فهو قوله- تعالى-: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.الطاقة- كما يقول الراغب-: اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط، فقوله- تعالى-: لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أى ما يصعب علينا مزاولته، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به».فالطاقة على هذا تكون فيما فعله بأقصى القدرة والقوة.أى: ونسألك يا ربنا ألا تحملنا ما هو فوق طاقتنا وقدرتنا من المصائب والعقوبات وغير ذلك من الأمور التي لا نستطيعها.وهذا الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق، فهم هنا يلتمسون منه- سبحانه- ألا ينزل بهم ما هو فوق قدرتهم وطاقتهم من بلايا ومحن، بعد أن التمسوا منه ألا يكلفهم بتكاليف شاقة ثقيلة كما كلف الذين من قبلهم.ثم حكى القرآن دعاءهم الرابع والخامس والسادس فقال: وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنا، وَارْحَمْنا أى نسألك يا ربنا أن تعفو عنا بأن تمحو عنا ما ألممنا به من ذنوب وتتجاوز عنها، وأن تغفر لنا سيئاتنا بأن تسترها ولا تفضحنا بإظهارها فأنت وحدك الغفار الستار. وأن ترحمنا برحمتك السابقة التي شملت كل شيء، فإننا مع تقصيرنا في طاعتك تأمل ألا تحرمنا من رحمتك فأنت تراهم قد تضرعوا إلى ربهم أن يعفو عنهم بأن يسقط عنهم العقاب وأن يغفر لهم بأن يستر عليهم ذنوبهم فلا يفضحهم بها، وأن يشملهم بعطفه ورحمته.وهي دعوات تدل على رقة إحساسهم، ونقاء نفوسهم، وشدة خشيتهم من ربهم، وشعورهم نحوه بالتقصير مهما قدموا من أعمال صالحة.ثم ختموا دعاءهم بقوله- تعالى-: أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أى: أنت مولانا وناصرنا وحافظنا ومعيننا وممدنا بالخير والهدى فانصرنا يا ربنا على القوم الكافرين لكي تكون كلمتك هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.وقولهم: أَنْتَ مَوْلانا يدل على نهاية خضوعهم وتذللهم وطاعتهم لله رب العالمين، لأنهم قد اعترفوا بأنه- سبحانه- هو المتولى لكل نعمة يصلون إليها.قال ابن كثير: وقد ورد في صحيح مسلّم عن النبي: صلّى الله عليه وسلّم- أن الله- تعالى- قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات: قد فعلت.وروى البخاري والجماعة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم-: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» .وروى الإمام أحمد عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي» .وبعد فهذه هي سورة البقرة التي اشتملت على ما يشفى الصدور، ويهدى القلوب، ويصلح النفوس: من توجيهات سامية، وآداب حميدة، وعقائد سليمة، وتشريعات حكيمة، وأمثال هادية، وقصص من شأنه أن يغرس في النفوس الخلق القويم، وأن يغريها بالاتعاظ والاعتبار حتى تكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.ولقد سبق لنا أن تكلمنا قبل البدء في تفسيرها عن وقت نزولها، وعن فضلها وعن مقاصدها الإجمالية ...والله نسأل أن ينفعنا بها وبكتابه الكريم، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه، ونافعة لعباده.اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا وبصائرنا، وجلاء همنا وحزننا، وأعنا على إتمام ما قصدناه بفضلك ورعايتك يا أكرم الأكرمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على طريقته إلى يوم الدين.

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) قال : إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة .قوله تعالى : ( لها ما كسبت ) أي للنفس ما عملت من الخير لها أجره وثوابه ( وعليها ما اكتسبت ) من الشر وعليها وزره ( ربنا لا تؤاخذنا ) أي لا تعاقبنا ( إن نسينا ) جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى : " نسوا الله فنسيهم " ( 67 - التوبة ) .قوله تعالى : ( أو أخطأنا ) قيل معناه القصد ، والعمد يقال : أخطأ فلان إذا تعمد قال الله تعالى : " إن قتلهم كان خطأ كبيرا " ( 31 - الإسراء ) قال عطاء : إن نسينا أو أخطأنا يعني : إن جهلنا أو تعمدنا وجعله الأكثرون من الخطإ الذي هو الجهل والسهو لأن ما كان عمدا من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله والخطأ معفو عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .قوله تعالى : ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا ) أي عهدا ثقيلا وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه ( كما حملته على الذين من قبلنا ) يعني اليهود فلم يقوموا به فعذبتهم هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة . يدل عليه قوله تعالى : " وأخذتم على ذلكم إصري " ( 81 - آل عمران ) أي عهدي وقيل : معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه ونحوها من الأثقال والأغلال وهذا معنى قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة ، وجماعة . يدل عليه قوله تعالى : " ويضع عنهم إصرهم ، والأغلال التي كانت عليهم " ( 157 - الأعراف ) وقيل : الإصر ذنب لا توبة له معناه اعصمنا من مثله والأصل فيه العقل والإحكام .قوله تعالى : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيقه وقيل هو حديث النفس والوسوسة حكي عن مكحول أنه قال : هو الغلمة قيل الغلمة شدة الشهوة وعن إبراهيم قال : هو الحب وعن محمد بن عبد الوهاب قال : العشق وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء وقيل : هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها .قوله تعالى : ( واعف عنا ) أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا ( واغفر لنا ) استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا ( وارحمنا ) فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك ( أنت مولانا ) ناصرنا وحافظنا وولينا ( فانصرنا على القوم الكافرين ) .روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل ( غفرانك ربنا ) قال الله تعالى " قد غفرت لكم " وفي قوله لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : " لا أوآخذكم( ربنا ولا تحمل علينا إصرا ) قال : " لا أحمل عليكم إصرا( ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : " لا أحملكم( واعف عنا ) إلى آخره قال " قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين " .وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال : آمين .أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو أسامة حدثني مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة بن علي بن مصرف عن مرة عن عبد الله قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به فوقها فيقبض منها قال : " إذ يغشى السدرة ما يغشى " ( 16 - النجم ) قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا : الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا من المقحمات " كبائر الذنوب .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها التكليف هو الأمر بما يشق عليه وتكلفت الأمر تجشمته ، حكاه الجوهري . والوسع : الطاقة والجدة . وهذا خبر جزم . نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته ، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر . وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال : ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب فإني تبعته يوما وأنا جائع فلما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثارة فشقه بين أيدينا ، فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرب وهو يقول :ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ولا تجود يد إلا بما تجد- اختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا ، بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع ، وأن هذه الآية أذنت بعدمه ، قال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين : تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ، ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع ، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعا به ، وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة . واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو لا ؟ فقال فرقة : وقع في نازلة أبي لهب ؛ لأنه كلفه بالإيمان بجملة الشريعة ، ومن جملتها أنه لا يؤمن ؛ لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن ، فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن . وقالت فرقة : لم يقع قط . وقد حكي الإجماع على ذلك . وقوله تعالى : سيصلى نارا معناه إن وافى ، حكاه ابن عطية . و ( يكلف ) يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف ، تقديره عبادة أو شيئا . فالله سبحانه بلطفه وإنعامه علينا - وإن كان قد كلفنا بما يشق ويثقل كثبوت الواحد للعشرة ، وهجرة الإنسان وخروجه من وطنه ومفارقة أهله ووطنه وعادته - لكنه لم يكلفنا بالمشقات المثقلة ولا بالأمور المؤلمة ، كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم وقرض موضع البول من ثيابهم وجلودهم ، بل سهل ورفق ووضع عنا الإصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا . فلله الحمد والمنة ، والفضل والنعمة .- قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت يريد من الحسنات والسيئات قاله السدي . وجماعة المفسرين لا خلاف بينهم في ذلك ، قاله ابن عطية . وهو مثل قوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا تكسب كل نفس إلا عليها . والخواطر ونحوها ليست من كسب الإنسان . وجاءت العبارة في الحسنات ب " لها " من حيث هي مما يفرح المرء بكسبه ويسر بها ، فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئات ب " عليها " من حيث هي أثقال وأوزار ومتحملات صعبة ، وهذا كما تقول : لي مال وعلي دين . وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام ، كما قال : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا . قال ابن عطية : ويظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله تعالى ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة ، إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازا ، لهذا المعنى .- في هذه الآية دليل على صحة إطلاق أئمتنا على أفعال العباد كسبا واكتسابا ، ولذلك لم يطلقوا على ذلك لا خلق ولا خالق ، خلافا لمن أطلق ذلك من مجترئة المبتدعة . ومن أطلق من أئمتنا ذلك على العبد ، وأنه فاعل فبالمجاز المحض . وقال المهدوي وغيره : وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد . قال ابن عطية : وهذا صحيح في نفسه ولكن من غير هذه الآية .- قال الكيا الطبري : قوله تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت يستدل به على أن من قتل غيره بمثقل أو بخنق أو تغريق فعليه ضمانه قصاصا أو دية ، فخلافا لمن جعل ديته على العاقلة ، وذلك يخالف الظاهر ، ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب لا يقتضي سقوطه عن شريكه . ويدل على وجوب الحد على العاقلة إذا مكنت مجنونا من نفسها . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : " ذكر علماؤنا هذه الآية في أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة ، وعلى شريك الخاطئ خلافا للشافعي وأبي حنيفة ؛ لأن كل واحد منهما قد اكتسب القتل . وقالوا : إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص لا يكون شبهة في درء ما يدرأ بالشبهة " .- ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا المعنى : اعف عن إثم ما يقع منا على هذين الوجهين أو أحدهما ، كقوله عليه السلام : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه أي إثم ذلك . وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع ، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام ، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء أو يلزم أحكام ذلك كله ؟ اختلف فيه . والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع ، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات . وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر . وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا ، وما كان مثله مما يقع خطأ ونسيانا ، ويعرف ذلك في الفروع .- قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا أي ثقلا قال مالك والربيع : الإصر الأمر الغليظ الصعب . وقال سعيد بن جبير : الإصر شدة العمل . وما غلظ على بني إسرائيل من البول ونحوه ، قال الضحاك : كانوا يحملون أمورا شدادا ، وهذا نحو قول مالك والربيع ، ومنه قول النابغة :يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعدما عرفواعطاء : الإصر : المسخ قردة وخنازير ، وقاله ابن زيد أيضا . وعنه أيضا أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة . والإصر في اللغة : العهد ، ومنه قوله تعالى : وأخذتم على ذلكم إصري . والإصر : الضيق والذنب والثقل . والإصار : الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، يقال : أصر يأصر أصرا حبسه . والإصر - بكسر الهمزة - من ذلك قال الجوهري : والموضع مأصر ومأصر والجمع مآصر ، والعامة تقول معاصر . قال ابن خويزمنداد : ويمكن أن يستدل بهذا الظاهر في كل عبادة ادعى الخصم تثقيلها ، فهو نحو قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم : الدين يسر فيسروا ولا تعسروا . اللهم شق على من شق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قلت : ونحوه قال الكيا الطبري قال : يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره للحنيفية السمحة ، وهذا بين .- قوله تعالى : ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال قتادة : معناه لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا . الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ، وقال نحوه ابن زيد . ابن جريج : لا تمسخنا قردة ولا خنازير . وقال سلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به : الغلمة وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء . وروى أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة . وقال السدي : هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل .قوله تعالى : " واعف عنا " أي عن ذنوبنا . عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه . " واغفر لنا " : أي استر على ذنوبنا . والغفر : الستر . وارحمنا ، أي تفضل برحمة مبتدئا منك علينا . " أنت مولانا " : أي ولينا وناصرنا . وخرج هذا مخرج التعليم للخلق كيف يدعون . روي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال : آمين . قال ابن عطية : هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان ذلك فكمال ، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هنالك دعاء وهنا دعاء فحسن . وقال علي بن أبي طالب : ما أظن أن أحدا عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما .قلت : قد روى مسلم في هذا المعنى عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه . قيل : من قيام الليل ؛ كما روي عن ابن عمر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أنزل الله علي آيتين من كنوز الجنة ختم بهما سورة البقرة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألف عام من قرأهما بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل آمن الرسول إلى آخر البقرة وقيل : كفتاه من شر الشيطان فلا يكون له عليه سلطان . وأسند أبو عمرو الداني عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جل وعز كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه هذه الثلاث آيات التي ختم بهن البقرة من قرأهن في بيته لم يقرب الشيطان بيته ثلاث ليال وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي وقد تقدم في الفاتحة نزول الملك بها مع الفاتحة . والحمد لله .تم الجزء الثالث من تفسير القرطبي يتلوه إن شاء الله الجزء الرابع وأوله سورة آل عمران
ex