سورة البقرة : الآية 284

تفسير الآية 284 سورة البقرة

لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا۟ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

لله ملك السماوات والأرض وما فيهما ملكًا وتدبيرًا وإحاطة، لا يخفى عليه شيء. وما تظهروه مما في أنفسكم أو تخفوه فإن الله يعلمه، وسيحاسبكم به، فيعفو عمن يشاء، ويؤاخذ من يشاء. والله قادر على كل شيء، وقد أكرم الله المسلمين بعد ذلك فعفا عن حديث النفس وخطرات القلب ما لم يتبعها كلام أو عمل، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا» تظهروا «ما في أنفسكم» من السوء والعزم عليه «أو تخفوه» تسروه «يحاسبكم» يخبركم «به الله» يوم القيامة «فيغفرْ لمن يشاء» المغفرة له «ويعذبْ من يشاء» تعذيبه والفعلان بالجزم عطف على جواب الشرط والرفع أي فهو «والله على كل شيء قدير» ومنه محاسبتكم وجزاؤكم.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكا له وعبيدا، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه، فيغفر لمن يشاء وهو لمن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

يخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ، وأنه المطلع على ما فيهن ، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر ، وإن دقت وخفيت ، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال : ( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ) [ آل عمران : 29 ] ، وقال : ( يعلم السر وأخفى ) [ طه : 7 ] ، والآيات في ذلك كثيرة جدا ، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم ، وهو : المحاسبة على ذلك ، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة ، رضي الله عنهم ، وخافوا منها ، ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها ، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم .قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثني أبو عبد الرحمنيعني العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، وقالوا : يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير " . فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) إلى آخره .ورواه مسلم منفردا به ، من حديث يزيد بن زريع ، عن روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، فذكر مثله ، ولفظه : " فلما فعلوا [ ذلك ] نسخها الله ، فأنزل : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال : نعم ، ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال : نعم ، ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : نعم ، ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) قال : نعم .حديث ابن عباس في ذلك : قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان ، سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ، قال : فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا " . فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فأنزل الله . ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) إلى قوله : ( فانصرنا على القوم الكافرين )وهكذا رواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كريب ، وإسحاق بن إبراهيم ، ثلاثتهم عن وكيع ، به وزاد : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال : قد فعلت ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال : قد فعلت ، ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : قد فعلت ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا [ فانصرنا ] ) قال : قد فعلت .طريق أخرى عن ابن عباس : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال : دخلت على ابن عباس فقلت : يا أبا عباس ، كنت عند ابن عمر فقرأهذه الآية فبكى . قال : أية آية ؟ قلت : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) قال ابن عباس ، إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا ، وغاظتهم غيظا شديدا ، يعني ، وقالوا : يا رسول الله ، هلكنا ، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ، فقال لهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " قولوا : سمعنا وأطعنا " . قالوا : سمعنا وأطعنا . قال : فنسختها هذه الآية : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله ) إلى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال .طريق أخرى عنه : قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن مرجانة ، سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية : ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ) الآية . فقال : والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه . قال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس ، فذكرت له ما قال ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن . لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر ، فأنزل الله بعدها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) إلى آخر السورة ، قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله ، عز وجل ، أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل .طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سالم : أن أباه قرأ : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فدمعت عيناه ، فبلغ صنيعه ابن عباس ، فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس ، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس .قال البخاري : حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خالد الحذاء ، عن مروان الأصفر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) قال : نسختها الآية التي بعدها .وهكذا روي عن علي ، وابن مسعود ، وكعب الأحبار ، والشعبي ، والنخعي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : أنها منسوخة بالتي بعدها .وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تكلم أو تعمل " .وفي الصحيحين ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله : إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا " . لفظ مسلم وهو في أفراده من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة ، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة " .وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة ، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله : إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قالت الملائكة : رب ، وإن عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، وإنما تركها من جراي " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أحسن أحد إسلامه ، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل " .تفرد به مسلم عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ وبعضه في صحيح البخاري .وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له [ عشرا ] إلى سبعمائة ضعف ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب ، وإن عملها كتبت " . تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب .[ وقال مسلم ] حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا عبد الوارث ، عن الجعد أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء العطاردي ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال : " إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . وإن هم بسيئة فلميعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة " .ثم رواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن جعفر بن سليمان ، عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الوارث وزاد : " ومحاها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك " .وفي حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : " وقد وجدتموه ؟ " قالوا : نعم . قال : " ذاك صريح الإيمان " .لفظ مسلم وهو عند مسلم أيضا من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، به . وروى مسلم [ أيضا ] من حديث مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة ، قال : " تلك صريح الإيمان " . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فإنها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ، مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله : ( يحاسبكم به الله ) يقول : يخبركم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) وهو قوله : ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) [ البقرة : 225 ] أي : من الشك والنفاق . وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبا من هذا .وروى ابن جرير ، عن مجاهد والضحاك ، نحوه . وعن الحسن البصري أنه قال : هي محكمة لم تنسخ . واختار ابن جرير ذلك ، واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة ، وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر ، وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الآية ، قائلا : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد وهشام ، ( ح ) وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا هشام ، قالا جميعا في حديثهما : عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر ، وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يدنو المؤمن من ربه ، عز وجل ، حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : هل تعرف كذا ؟ فيقول : رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " . قال : " فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد : ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] .وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة ، عن قتادة ، به .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية قالت : سألت عائشة عن هذه الآية : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فقالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : " هذه مبايعة الله العبد ، وما يصيبه من الحمى ، والنكبة ، والبضاعة يضعها في يد كمه ، فيفتقدها فيفزع لها ، ثم يجدها في ضبنه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر [ من الكير ] " .وكذا رواه الترمذي ، وابن جرير من طريق حماد بن سلمة ، به . وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديثه .قلت : وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف ، يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه : أم محمد أمية بنت عبد الله ، عن عائشة ، وليس لها عنها في الكتب سواه .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

وما دام الأمر كذلك فعليكم- أيها المؤمنون- أن تبذلوا نهاية جهدكم في العمل الصالح الذي بين أيديكم إنما هو عارية مستردة، وأن المالك الحقيقي له إنما هو الله رب العالمين، فأنفقوا من هذا المال- الذي هو أمانة بين أيديكم- في وجوه الخير واجمعوه من طريق حلال، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم، بل كانوا كما قالوا: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.وقوله- سبحانه-: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ بيان لشمول علم الله- تعالى- لما أظهره الإنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر.والجملة الكريمة صريحة في أن الله- تعالى- يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه.وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنما تكون على ما يعزم عليه الإنسان وينويه ويصر على فعله، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته: كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التي أصر عليها.أما الخواطر النفسية التي تجول في النفس، وتعرض للإنسان دون أن يعزم على تنفيذها، فإنها ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلا للثواب.ففي الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال الله- تعالى-: إذا هم عبدى بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا .وروى الجماعة في كتبهم عن أبى هريرة قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله تجاوز لي عن أمتى ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم» .قال الفخر الرازي: الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين: فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك، بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس.فالقسم الأول يكون مؤاخذا به.والثاني لا يكون مؤاخذا به، ألا ترى إلى قوله- تعالى-: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .وقال الآلوسى: المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات، وليس كذلك سائر ما يحدث في النفس- أى من خواطر لا تصميم ولا عزم معها- قال بعضهم:مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعايليه هم فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعاوقوله- تعالى-: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء» بيان لنتيجة المحاسبة التي تكون من الخالق- عز وجل- لعباده.أى: أنه- سبحانه- بمقتضى علمه الشامل، وإرادته النافذة، يحاسب عباده على ما أسروه وما أعلنوه من أقوال وأعمال، فيغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.وقوله: فَيَغْفِرُ ويعذب، قرأه عاصم وابن عامر ويعقوب وأبو جعفر برفع الراء والباء على الاستئناف أى فهو يغفر. وقرأ الباقون بإسكانهما عطفا على جواب الشرط وهو قوله:يُحاسِبْكُمْ.وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته- سبحانه- على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما سبق ذكره من المحاسبة لعباده، وإثابة من يشاء إثابته وتعذيب من يشاء تعذيبه، فهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير.ثم ختم- سبحانه- سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها، وبين في الثانية أنه- سبحانه- لم يكلف الناس إلا بما في قدرتهم، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء. قال- تعالى-:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

( لله ما في السماوات وما في الأرض ) ملكا [ وأهلها له عبيد وهو مالكهم ] ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ) اختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم : هي خاصة ثم اختلفوا في وجه [ خصوصها ] فقال بعضهم : هي متصلة بالآية الأولى نزلت في كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهو قول الشعبي وعكرمة وقال بعضهم : نزلت فيمن يتولى الكافرين دون المؤمنين يعني وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروا يحاسبكم به الله وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين " إلى أن قال " قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله " ( 29 - آل عمران ) .قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا بل قولوا " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى:" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال نعم " ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا " قال نعم " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال نعم " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " قال نعم" وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه، وقال في كل ذلك: قد فعلت، بدل قوله نعم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وإليه ذهب محمد بن سيرين و محمد بن كعب و قتادة و الكلبي .اخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو محمد عبد ا لله بن يوسف الأصفهاني ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني ، أخبرنا القاسم بن الحكم العرني ، أخبرنا مسعر بن كدام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبسي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به ".وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله " يحاسبكم به الله " خبر لايرد عليه النسخ، ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم: قد أثبت الله تعالى للقلب كسباً فقال " بما كسبت قلوبكم " (225-البقرة) فليس لله عبد أسر عملاً أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همسة في قلبع إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء، وهذا معنى قول الحسن يدل عليه قوله تعالى " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " (36-الإسراء)وقال الآخرون: معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه ويعاقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: " يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ".أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر بعبده أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامه ".وقال بعضهم " وإن تبدوا ما في أنفسكم " يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه " أو تخفوه يحاسبكم به الله " ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولا يؤاخذكم به، دليله قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " (225-البقرة). وقال عبد الله بن المبارك : قلت لسفيان: أيؤاخذ العبد بالهمة قال: إذا كان عزماً أخذ بها، وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف،ومعنى الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله ويجزيكم به ويعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذب الكافرين إظهاراً لعدله، وهذا معنى قول الضحاك ، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، يدل عليه أنه قال: يحاسبكم به الله ولم يقل يؤاخذكم به، والمحاسبة غير المؤاخذة والدليل عليه ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، أنا عيسى بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا همام بن يحيى عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأتاه رجل فقال.كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب ثم يقول أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته،وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " (18-هود). قوله تعالى: " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " رفع الراء والياء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب وجزمهما الآخرون، فالرفع على الابتداء والجزم على النسق، وروى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما، فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير، " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " " والله على كل شيء قدير " (230-الأنبياء).

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قديرقوله تعالى : لله ما في السماوات وما في الأرض تقدم معناه .قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيه مسألتان :الأولى : اختلف الناس في معنى قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله على أقوال خمسة :( الأول ) أنها منسوخة ، قاله ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وجماعة من الصحابة والتابعين ، وأنه بقي هذا التكليف حولا حتى أنزل الله الفرج بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . وهو قول ابن مسعود وعائشة وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وغيرهم . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : لما نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال : دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال : ( قد فعلت ) ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال : ( قد فعلت ) ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرينقال : ( قد فعلت ) : في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وسيأتي .( الثاني ) قال ابن عباس وعكرمة والشعبي ومجاهد : إنها محكمة مخصوصة ، وهي في معنى الشهادة التي نهى عن كتمها ، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب .( الثالث ) أن الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين ، وقاله مجاهد أيضا .( الرابع ) أنها محكمة عامة غير منسوخة ، والله محاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم وأضمروه ونووه وأرادوه ، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ذكره الطبري عن قوم ، وأدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا . روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : لم تنسخ ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول : ( إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم ) فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب ، فذلك قوله : يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو قوله عز وجل : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم من الشك والنفاق . وقال الضحاك : يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه . وفي الخبر : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة هذا يوم تبلى فيه السرائر وتخرج الضمائر وأن كتابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم وأنا المطلع على ما لم يطلعوا عليه ولم يخبروه ولا كتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه فأغفر لمن أشاء وأعذب من أشاء ) فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين ، وهذا أصح ما في الباب ، يدل عليه حديث النجوى على ما يأتي بيانه ، لا يقال : فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به . فإنا نقول : ذلك محمول على أحكام الدنيا ، مثل الطلاق والعتاق والبيع التي لا يلزمه حكمها ما لم يتكلم به ، والذي ذكر في الآية فيما يؤاخذ العبد به بينه وبين الله تعالى في الآخرة . وقال الحسن : الآية محكمة ليست بمنسوخة . قال الطبري : وقال آخرون نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس ، إلا أنهم قالوا : إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفوس وصحبه الفكر إنما هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها . ثم أسند عن عائشة نحو هذا المعنى ، وهو ( القول الخامس ) : ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة : قال ابن عطية : وهذا هو الصواب ، وذلك أن قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم ، وذلك استصحاب المعتقد والفكر ، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم ، فبين الله لهم ما أراد بالآية الأخرى ، وخصصها ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع ، بل هي أمر غالب وليست مما يكتسب ، فكان في هذا البيان فرجهم وكشف كربهم ، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها : ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ ، فإن ذهب ذاهب إلى تقدير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم : ( قولوا سمعنا وأطعنا ) يجيء منه الأمر بأن يثبتوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران . فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه ، وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا واثبتوا عليه واصبروا بحسبه ، ثم نسخ بعد ذلك . وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين . قال ابن عطية : وهذه الآية في " البقرة " أشبه شيء بها . وقيل : في الكلام إضمار وتقييد ، تقديره يحاسبكم به الله إن شاء ، وعلى هذا فلا نسخ . وقال النحاس : ومن أحسن ما قيل في الآية - وأشبه بالظاهر - قول ابن عباس : إنها عامة ، ثم أدخل حديث ابن عمر في النجوى ، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ، واللفظ لمسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه جل وعز حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه ؛ فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : أي رب أعرف ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله . وقد قيل : إنها نزلت في الذين يتولون الكافرين من المؤمنين ، أي وإن تعلنوا ما في أنفسكم أيها المؤمنون من ولاية الكفار أو تسروها يحاسبكم به الله ، قاله الواقدي ومقاتل ، واستدلوا بقوله تعالى في ( آل عمران ) قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه من ولاية الكفار يعلمه الله يدل عليه ما قبله من قوله : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين .قلت : وهذا فيه بعد ؛ لأن سياق الآية لا يقتضيه ، وإنما ذلك بين في " آل عمران " والله أعلم . وقد قال سفيان بن عيينة : بلغني أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون قومهم بهذه الآية لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله .قوله تعالى : فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي " فيغفر ويعذب " بالجزم - عطف - على الجواب . وقرأ ابن عامر وعاصم بالرفع فيهما على القطع ، أي فهو يغفر ويعذب . وروي عن ابن عباس والأعرج وأبي العالية وعاصم الجحدري بالنصب فيهما على إضمار " أن " . وحقيقته أنه عطف على المعنى ، كما في قوله تعالى : فيضاعفه له وقد تقدم . والعطف على اللفظ أجود للمشاكلة ، كما قال الشاعر :ومتى ما يع منك كلاما يتكلم فيجبك بعقلقال النحاس : وروي عن طلحة بن مصرف " يحاسبكم به الله يغفر " بغير فاء على البدل . ابن عطية : وبها قرأ الجعفي وخلاد . وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود . قال ابن جني : هي على البدل من " يحاسبكم " وهي تفسير المحاسبة ، وهذا كقول الشاعر :رويدا بني شيبان بعض وعيدكم تلاقوا غدا خيلي على سفوانتلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى إذا ما غدت في المأزق المتدانيفهذا على البدل . وكرر الشاعر الفعل ؛ لأن الفائدة فيما يليه من القول . قال النحاس : وأجود من الجزم - لو كان بلا فاء - الرفع ، يكون في موضع الحال ، كما قال الشاعر :متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
ex