سورة البقرة : الآية 22

تفسير الآية 22 سورة البقرة

ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ فِرَٰشًا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا۟ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

ربكم الذي جعل لكم الأرض بساطًا؛ لتسهل حياتكم عليها، والسماء محكمة البناء، وأنزل المطر من السحاب فأخرج لكم به من ألوان الثمرات وأنواع النبات رزقًا لكم، فلا تجعلوا لله نظراء في العبادة، وأنتم تعلمون تفرُّده بالخلق والرزق، واستحقاقِه العبودية.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«الذي جعل» خلق «لكم الأرض فراشا» حال بساطا يفترش لا غاية في الصلابة أو الليونة فلا يمكن الاستقرار عليها «والسماء بناءً» سقفاً «وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من» أنواع «الثمرات رزقاً لكم» تأكلونه وتعلفون دوابكم «فلا تجعلوا لله أنداداً» شركاء في العبادة «وأنتم تعلمون» أنه الخالق ولا تخلقون، ولا يكون إلهاً إلا من يخلق.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها رِزْقًا لَكُمْ به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون. فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه. وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك. وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

بأن جعل لهم الأرض فراشا ، أي : مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ، ( والسماء بناء ) وهو السقف ، كما قال في الآية الأخرى : ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون ) [ الأنبياء : 32 ] وأنزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا - في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقا لهم ولأنعامهم ، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن . ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ) [ غافر : 64 ] ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار ، وساكنيها ، ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ؛ ولهذا قال : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا ، وهو خلقك الحديث . وكذا حديث معاذ : أتدري ما حق الله على عباده ؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا الحديث وفي الحديث الآخر : لا يقولن أحدكم : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل ما شاء الله ، ثم شاء فلان .وقال حماد بن سلمة : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن الطفيل بن سخبرة ، أخي عائشة أم المؤمنين لأمها ، قال : رأيت فيما يرى النائم ، كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . قال : ثم مررت بنفر من النصارى ، فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن النصارى . قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : هل أخبرت بها أحدا ؟ فقلت : نعم . فقام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده . هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، به . وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر ، عن عبد الملك بن عمير به ، بنحوه .وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت . فقال : أجعلتني لله ندا ؟ قل : ما شاء الله وحده . رواه ابن مردويه ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس ، عن الأجلح ، به .وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم .وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أي : وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .وبه عن ابن عباس : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) أي : لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه . وهكذا قال قتادة .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ، حدثنا أبي عمرو ، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله ، عز وجل ( فلا تجعلوا لله أندادا [ وأنتم تعلمون ] ) قال : الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها فلان . هذا كله به شرك .وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال : أجعلتني لله ندا . وفي الحديث الآخر : نعم القوم أنتم ، لولا أنكم تنددون ، تقولون : ما شاء الله ، وشاء فلان .قال أبو العالية : ( فلا تجعلوا لله أندادا ) أي عدلاء شركاء . وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، وأبو مالك : وإسماعيل بن أبي خالد .وقال مجاهد : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) قال : تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة :قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يعد من البدلاء ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل ، أمر يحيى بن زكريا ، عليه السلام ، بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وكان يبطئ بها ، فقال له عيسى ، عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن ، وإما أن أبلغهن . فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي . قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، فإن مثل ذلك مثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأمركم بالصلاة ؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ، كلهم يجد ريح المسك . وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك . وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ، فشدوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وأمركم بذكر الله كثيرا ؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره ، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله .قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ؛ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم . قالوا : يا رسول الله ، وإن صام وصلى ؟ فقال : وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله .هذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا .وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال : وهي دالة على ذلك بطريق الأولى ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله ، إن البعرة لتدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات ، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ، فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم ، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ! ! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه .وعن الشافعي : أنه سئل عن وجود الصانع ، فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرا وروثا ، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد .وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصن حصين أملس ، ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة .وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصاتبأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهداتبأن الله ليس له شريكوقال ابن المعتز :فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدوفي كل شيء له آية تدل على أنه واحدوقال آخرون : من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال : ( ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 27 ، 28 ] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ثم أضاف - سبحانه - أسباباً أخرى تحمل الناس على عبادته وطاعته فقال : ( الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ) .الفراش : ما يفترشه الإِنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام . أي : اجعلوا عبادتكم لله الذي صير الأرض لأجلكم مهاداً كالبساط المفروش ، فذللها لكم ولم يجعلها صعبة غليظة ، لكي يتهيأ لكم الاستقرار عليها . والتقلب في مناكبها ، والانتفاع بما أودع الله في باطنها من خيرات .وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافي كونها كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها .( والسماء بِنَآءً ) يقال لسقف البيت بناء أي : جعل السماء كالسقف للأرض ، لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها كما قال - تعالى - (وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) وقدم خلق الأرض على خلق السماء لأن الأرض أقرب إلى المخاطبين ، وانتفاعهم بها أظهر وأكثر من انتفاعهم بالسماء .قال بعض الأدباء : " إذا تأملت هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإِنسان كما لك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعه ، وضروب الحياة مصروفة لمصالحه " فهذه جملة واضحة داله على أن العالم مخلوق بتدبير كامل ، وتقدير شامل ، وحكمة بالغة ، وقدرة غير متناهية " .ثم قال - تعالى - ( وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ) :السماء : السحاب ، والثمرات : ما ينتجه الشجر . والرزق : ما يصلح لأن ينتفع به . والباء في . ( به ) للسببية .أي : أنه جعل الماء سبباً في خروج الثمرة ، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب .وأورد ( مَآءً ) و ( رِزْقاً ) في صيغة التنكير التي تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذي وضع له اللفظ لغة ، وذلك لأن من الماء ما لم ينزل من السماء ، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات . فمعنى الجملة الكريمة : أنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقاً لكم .ثم قال - تعالى - ( فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .الأنداد : جمع ند ، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه .وأصله من : ند البعير يند ندا ونداداً ونداً ، إذا تفرد وذهب على وجهه شارداً .والمعنى : فلا تجعلوا لله أمثالاً ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة ، وتعتقدون فيها النفع والضر ، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده ، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أنداداً مساوية له تعالى ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي : وأنتم من ذوي العلم والنظر ، فلو تأملتم أدنى تأمل لانصرفتم بقوة إلى عبادة الله وحده .ولتركتم الإِشراك به .وصدرت الجملة الكريمة بالفاء لترتبها على الكلام السابق ، المترتب على الأمر بعبادة الله وحده .وسمى القرآن الشركاء المزعومين أنداداً تهكماً بالعابدين لها ، ولأن المشركين لما تركوا عبادة الله إلى عبادة الأوثان ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة ، قادرة على مخالفته ومضادته ، وذلك معنى جعلها أنداداً الذي هو مصب النهي في الآية .وجملة ( وأنتم تعلمون ) ، حالية ، ومفعول تعلمون متروك ، لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول ، بل قصد إثباته لفاعله فقد فنزل منزلة اللازم ، وفي هذه الجملة مبالغة في زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله ، لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح ، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحاً ، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ ألوان الإِنكار . كما أن فيها إثارة لهممهم ليقلعوا عن عبادة غير الله ، فإن من كان من ذوي العلم لا يصح منه أن يفعل أفعال من لا عقل له ، وهذا لون جليل من ألوان التربية ، فإن من سمات المربي الناجح أن يجمع بين القسوة في النهي عن القبيح ، وبين إثارة همة الموعوظ حتى لا يقتل همته باليأس ، لأن الإِنسان إذا ساءت ظنونه بنفسه خارت عزيمته ، وفترت همته .هذا ، وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تدعو إلى توحيد الله ، وتنهى عن الإِشراك ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : " قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ " قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك " " .قال الإِمام ابن كثير : وهذه الآية دالة على توحيده - تعالى - بالعبادة وحده لا شريك له ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانتها وطباعها ومنافعها ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الله - تعالى -؟ فقال : يا سبحانه الله!! إن البعير ليدل على البعير؛ وإن أثر القدم يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل هذا على وجود اللطيف الخبير .

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

الذي جعل لكم الأرض فراشاً أي بساطاً، وقيل: مناماً، وقيل: وطاء أي ذللها ولم يجعلها حزنة لايمكن القرار عليها.قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهوخلقك قلت: إن ذلك عظيم، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك".و"الجعل" هاهنا بمعنى الخلق.والسماء بناء وسقفاً مرفوعاً.وأنزل من السماء أي من السحاب.ماء وهو المطر.فأخرج به من الثمرات من ألوان الثمرات وأنواع النبات.رزقاً لكم طعاماً لكم وعلفاً لدوابكم.فلا تجعلوا لله أنداداً أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله.قال أبو عبيدة: "الند الضد وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد".وأنتم تعلمون أنه واحد خالق هذه الأشياء.

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا فيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : الذي جعل معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين : ويأتي بمعنى خلق ، ومنه قوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة وقوله : وجعل الظلمات والنور ويأتي بمعنى سمى ، ومنه قوله تعالى : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا . وقوله : وجعلوا له من عباده جزءا . وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أي سموهم . ويأتي بمعنى أخذ ، كما قال الشاعر :وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهما ها يقرع العظم نابهاوقد تأتي زائدة ، كما قال الآخر :وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبروقد قيل في قوله تعالى وجعل الظلمات والنور : إنها زائدة . وجعل واجتعل بمعنى واحد ، قال الشاعر :ناط أمر الضعاف واجتعل اللي ل كحبل العادية الممدودفراشا أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها . وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها ; لأن الجبال كالأوتاد كما قال : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناسالثانية : قال أصحاب الشافعي : لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث ، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا . وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين ، فإن عدم ذلك فالعرف .الثالثة : قوله تعالى : والسماء بناء السماء للأرض كالسقف للبيت ، ولهذا قال وقوله الحق وجعلنا السماء سقفا محفوظا وكل ما علا فأظل قيل له سماء ، وقد تقدم القول فيه والوقف على ( بناء ) أحسن منه على تتقون ; لأن قوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا نعت للرب . ويقال : بنى فلان بيتا ، وبنى على أهله - بناء فيهما - أي زفها . والعامة تقول : بنى بأهله ، وهو خطأ ، وكأن الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها ، فقيل لكل داخل بأهله : بان . وبنى " مقصورا " شدد للكثرة ، وابتنى دارا وبنى بمعنى ، ومنه بنيان الحائط ، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت .وأصل الماء موه ، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقلت ماه ، فالتقى حرفان خفيان فأبدلت من الهاء همزة ; لأنها أجلد ، وهي بالألف أشبه ، فقلت : ماء ، الألف الأولى عين الفعل ، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء ، وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين . قال أبو الحسن : لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين ، وإن شئت بثلاث ، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الأصل فقالوا : مويه وأمواه ومياه ، مثل جمال وأجمال .الرابعة : قوله تعالى : فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الثمرات جمع ثمرة . ويقال : ثمر مثل شجر . ويقال ثمر مثل خشب . ويقال : ثمر مثل بدن . وثمار مثل إكام ، جمع ثمر . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الأنعام " إن شاء الله . وثمار السياط : عقد أطرافها .والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات ، وأنواعا من النبات . رزقا طعاما لكم ، وعلفا لدوابكم ، وقد بين هذا قوله تعالى : إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى والحمد لله .فإن قيل : كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ؟ قيل له : لأنها معدة لأن تملك ويصح بها الانتفاع ، فهي رزق .الخامسة : قلت : ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق ، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى : والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه . أخرجه مسلم . ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا . وقال علماء الصوفية : أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر ، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء ، والماء طيبا والكلأ طعاما ، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا ، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه ، من غير منة فيه لأحد عليك . وقال نوف البكالي : رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت : بل رامق يا أمير المؤمنين ، قال : طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا ، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام . . . وذكر باقي الخبر ، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى : أجيب دعوة الداع إن شاء الله تعالى .السادسة : قوله تعالى : فلا تجعلوا نهي . " لله أندادا " أي أكفاء وأمثالا ونظراء ، واحدها ند ، وكذلك قرأ محمد بن السميقع " ندا " ، قال الشاعر :نحمد الله ولا ند له عنده الخير وما شاء فعلوقال حسان :أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداءويقال : ند ونديد ونديدة على المبالغة ، قال لبيد :لكيلا يكون السندري نديدتي وأجعل أقواما عموما عماعماوقال أبو عبيدة أندادا أضدادا . النحاس : أندادا مفعول أول ، و " لله " في موضع الثاني . الجوهري : والند ( بفتح النون ) : التل المرتفع في السماء . والند من الطيب ليس بعربي . وند البعير يند ندا وندادا وندودا : نفر وذهب على وجهه ، ومنه قرأ بعضهم " يوم التناد " . وندد به أي شهره وسمع به .السابعة : قوله تعالى : وأنتم تعلمون ابتداء وخبر ، والجملة في موضع الحال ، والخطاب للكافرين والمنافقين ، عن ابن عباس .فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى . فالجواب من وجهين : أحدهما - وأنتم تعلمون يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق ، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد . الثاني - أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ، والله أعلم . وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد . وقال ابن فورك : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين ، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد .
ex