سورة البقرة : الآية 217

تفسير الآية 217 سورة البقرة

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُوا۟ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُو۟لَٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

يسألك المشركون -أيها الرسول- عن الشهر الحرام: هل يحل فيه القتال؟ قل لهم: القتال في الشهر الحرام عظيم عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه، ومَنْعكم الناس من دخول الإسلام بالتعذيب والتخويف، وجحودكم بالله وبرسوله وبدينه، ومَنْع المسلمين من دخول المسجد الحرام، وإخراج النبي والمهاجرين منه وهم أهله وأولياؤه، ذلك أكبر ذنبًا، وأعظم جرمًا عند الله من القتال في الشهر الحرام. والشرك الذي أنتم فيه أكبر وأشد من القتل في الشهر الحرام. وهؤلاء الكفار لم يرتدعوا عن جرائمهم، بل هم مستمرون عليها، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا تحقيق ذلك. ومن أطاعهم منكم -أيها المسلمون- وارتدَّ عن دينه فمات على الكفر، فقد ذهب عمله في الدنيا والآخرة، وصار من الملازمين لنار جهنم لا يخرج منها أبدًا.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أول سراياه وعليها عبد الله بن جحش فقاتلوا المشركين وقتلوا ابن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة والتبس عليهم برجب فعيرهم الكفار باستحلاله فنزل: «يسألونك عن الشهر الحرام» المحرم «قتال فيه» بدل اشتمال «قل» لهم «قتال فيه كبير» عظيم وزرا مبتدأ وخبر «وصد» مبتدأ منع للناس «عن سبيل الله» دينه «وكفر به» بالله «و» صد عن «المسجد الحرام» أي مكة «وإخراج أهله منه» وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وخبر المبتدأ «أكبر» أعظم وزرا «عند الله» من القتال فيه «والفتنة» الشرك منكم «أكبر من القتل» لكم فيه «ولا يزالون» أي الكفار «يقاتلونكم» أيها المؤمنون «حتى» كي «يردوكم» إلى الكفر «إن استطاعوا ومن يرتدِد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت» بطلت «أعمالهم» الصالحة «في الدنيا والآخرة» فلا اعتداد بها ولا ثواب عليها والتقيد بالموت عليه يفيد أنه لو رجع إلى الإسلام لم يبطل عمله فيثاب عليه ولا يعيده كالحج مثلا وعليه الشافعي «وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون».

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم, منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ, لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها, تحريم القتال فيها, وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم, كما يجوز في البلد الحرام. ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل, لسرية عبد الله بن جحش, وقتلهم عمرو بن الحضرمي, وأخذهم أموالهم, وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم, وكانوا في تعييرهم ظالمين, إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين, قال تعالى في بيان ما فيهم: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله, وفتنتهم من آمن به, وسعيهم في ردهم عن دينهم, وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام, والبلد الحرام, الذي هو بمجرده, كاف في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟! وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ أي: أهل المسجد الحرام, وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنهم أحق به من المشركين, وهم عماره على الحقيقة, فأخرجوهم مِنْهُ ولم يمكنوهم من الوصول إليه, مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ في الشهر الحرام, فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة, في تعييرهم المؤمنين. ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم, وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم, ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك, ساعون بما أمكنهم, ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وهذا الوصف عام لكل الكفار, لا يزالون يقاتلون غيرهم, حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصا, أهل الكتاب, من اليهود والنصارى, الذين بذلوا الجمعيات, ونشروا الدعاة, وبثوا الأطباء, وبنوا المدارس, لجذب الأمم إلى دينهم, وتدخيلهم عليهم, كل ما يمكنهم من الشبه, التي تشككهم في دينهم. ولكن المرجو من الله تعالى, الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام, واختار لهم دينه القيم, وأكمل لهم دينه، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام, وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره, ويجعل كيدهم في نحورهم, وينصر دينه, ويعلي كلمته. وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار, كما صدقت على من قبلهم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام, بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا، فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لعدم وجود شرطها وهو الإسلام، وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ودلت الآية بمفهومها, أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام, أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته، وكذلك من تاب من المعاصي, فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، حدثني الحضرمي ، عن أبي السوار ، عن جندب بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطا ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح [ أو عبيدة بن الحارث ] فلما ذهب ينطلق ، بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : لا تكرهن أحدا على السير معك من أصحابك . فلما قرأ الكتاب استرجع ، وقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله . فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، وبقي بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى . فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ! فأنزل الله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) الآية .وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة ، عن ابن مسعود : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ، وكانوا سبعة نفر ، عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، وفيهم عمار بن ياسر ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن فهيرة ، وواقد بن عبد الله اليربوعي ، حليف لعمر بن الخطاب . وكتب لابن جحش كتابا ، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب ، فإذا فيه : أن سر حتى تنزل بطن نخلة . فقال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمض وليوص ، فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسار ، فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص ، وعتبة ، وأضلا راحلة لهما فأتيا بحران يطلبانها ، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هو بالحكم بن كيسان ، والمغيرة بن عثمان ، وعمرو بن الحضرمي ، وعبد الله بن المغيرة . وانفلت [ ابن ] المغيرة ، [ فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة ] وقتل عمرو ، قتله واقد بن عبد الله . فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا المال ، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى ننظر ما فعل صاحبانا " فلما رجع سعد وصاحبه ، فادى بالأسيرين ، ففجر عليه المشركون وقالوا : إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله ، وهو أول من استحل الشهر الحرام ، وقتل صاحبنا في رجب . فقال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى وقيل : في أول رجب ، وآخر ليلة من جمادى وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب . فأنزل الله يعير أهل مكة : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ، حين كفرتم بالله ، وصددتم عنه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وإخراج أهل المسجد الحرام منه ، حين أخرجوا محمدا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله .وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردوه عن المسجد [ الحرام ] في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل . فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام . فقال الله : ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر ) من القتال فيه . وأن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عمرو بن الحضرمي ، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى ، وأول ليلة من رجب . وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه . وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك . فقال الله : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) وغير ذلك أكبر منه : صد عن سبيل الله ، وكفر به والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، والشرك أشد منه .وهكذا روى أبو سعد البقال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنها أنزلت في سرية عبد الله بن جحش ، وقتل عمرو بن الحضرمي .وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرمي : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) إلى آخر الآية .وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني ، رحمه الله ، في كتاب السيرة له ، أنه قال : وبعث يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا . وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين . ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن بن حرثان ، أحد بني أسد بن خزيمة ، حليف لهم . ومن بني نوفل بن عبد مناف : عتبة بن غزوان بن جابر ، حليف لهم . ومن بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص . ومن بني عدي بن كعب : عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عنز بن وائل ، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم . وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم . ومن بني الحارث بن فهر : سهيل بن بيضاء .فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه : " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، ترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم " . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعا وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد .فسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له : بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، كانا يعتقبانه ، فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش ، فيها : عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة .فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا وقالوا : عمار ، لا بأس عليكم منهم . وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام . فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم . فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم . وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش : أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس ، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم ، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه .قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله قال : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " . فوقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال . فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان .وقالت يهود تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله : عمرو : عمرت الحرب ، والحضرمي : حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب . فجعل الله عليهم ذلك لا لهم .فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) أي : إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم ، ( والفتنة أكبر من القتل ) أي : قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل :( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين .قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم . فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا . وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ، فمات بها كافرا .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

وبعد أن حرض الله- تعالى- المؤمنين على بذل أموالهم وأنفسهم في سبيله عقب ذلك ببيان حكم القتال في الأشهر الحرم فقال- تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ... إلخ.وقد ذكر كثير من المفسرين ومن أصحاب السير في سبب نزول هذه الآية قصة ملخصها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش ومعه اثنا عشر رجلا كلهم من المهاجرين، وأعطاه كتابا مختوما وأمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه. فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة- مكان بين مكة والطائف- فترصد بها عيرا لقريش وتعلم لنا من أخبارهم» .فقال عبد الله: سمعا وطاعة!! وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع فأما أنا فناهض! فنهضوا جميعا، فلما كانوا في أثناء الطريق أضل سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه. فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى وصلوا نخلة فمرت عير لقريش في طريقها لمكة وكانت في حراسة عمرو بن الخضرمي وعثمان بن المغيرة، وأخوه نوفل والحكم بن كيسان. فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب. لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن في الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام!! فترددوا وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، فرمى «واقد بن عبد الله» عمرو بن الحضرمي يسهم فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت منهم نوفل فأعجزهم.وقيل كان ذلك في أول ليلة من رجب وقد ظنوها آخر ليلة من جمادى، فإقدامهم على ما أقدموا عليه كان على سبيل الخطأ.ثم أقبل عبد الله ومن معه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس فأنكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فعلوه وقال لهم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام، واشتد ذلك على المسلمين، حتى أنزل الله تعالى قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.. .والمعنى: يسألونك يا محمد عن حكم القتال في الشهر الحرام، قل لهم. القتال فيه أمر كبير مستنكر، وذنب عظيم مستقبح، لأن فيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس، وانتهاك لمحارم الله- تعالى-.والسائلون قيل هم المؤمنون وقد سألوا عن حكم ذلك على سبيل التعليم والتماس المخرج لما حصل منهم. وقيل هم المشركون وسؤالهم على سبيل التعيير للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، حيث أقدم بعضهم وهو عبد الله ومن معه على القتال فيه فرد الله عليهم بأن القتال فيه كبير ولكن ما فعله هؤلاء المشركون من صد عن سبيل الله وكفر به ... إلخ أكبر من ذلك بكثير.فالجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين. وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإسلام والمسلمين، فلما أجابهم بأن القتال فيه كبير وأن ما فعلوه من جرائم في حق المسلمين أكبر وأعظم كبتوا وألقموا حجرا.والمراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم جميعها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب.وسميت بذلك لحرمة القتال فيها، فأل في الشهر للجنس. وقيل للعهد والمراد بالشهر الحرام شهر رجب الذي حدثت فيه قصة عبد الله بن جحش وأصحابه. وقوله «قتال فيه» بدل اشتمال من الشهر الحرام، وقِتالٍ مبتدأ وكَبِيرٌ خبر وفِيهِ ظرف صفة لقتال مخصصة له.قال الإمام الرازي: فإن قيل: لم نكر القتال في قوله- تعالى-: قِتالٍ فِيهِ ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله- تعالى-: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً.قلنا: نعم ما ذكرتم من أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني غير الأول. والقوم أرادوا بقولهم: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله وأصحابه فقال- تعالى-: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ. وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيرا ليس هو القتال الذي سألتم عنه بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر؟ إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة. ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة. فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب- بل تحت كل حرف منه- سر لطيف لا يهتدى إليه إلا أولو الألباب» .ثم أخذ القرآن يعدد على المشركين جرائمهم التي كل جريمة منها أكبر من القتال في الشهر الحرام الذي فعله المؤمنون لدفع الضرر عن أنفسهم أو لجهلهم بالميقات فقال- تعالى-:وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُفْرٌ بِهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ.أى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين نحن نوافقكم على أن القتال في الشهر الحرام كبير، ثم قل لهم أيضا على سبيل التوبيخ إن ما فعلتموه أنتم من صرفكم المسلمين عن طاعة الله وعن الوصول إلى حرمه، ومن شرككم بالله في بيته، ومن إخراجكم لأهله منه أعظم وزرا عند الله من القتال في الشهر الحرام.فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين بسبب ما وقع من عبد الله بن جحش ومن معه، وتبكيت المشركين على جرائمهم التي أولها يتمثل في قوله تعالى-: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى: منع من يريد الإسلام من دخوله، وابتدأ- سبحانه- ببيان صدهم عن سبيله للإشارة إلى أنهم يعاندون الحق في ذاته.وثانيها قوله: وَكُفْرٌ بِهِ أى: كفر بالله- تعالى- وهو معطوف على ما قبله.وثالثها قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو معطوف على سبيل الله أى: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام بمنعهم المؤمنين من الحج والاعتمار.ورابعها قوله: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أى: وإخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من مستقرهم حول المسجد الحرام بمكة وهم القائمون بحقوقه، كل ذلك «أكبر» جرما، وأعظم إثما «عند الله» من القتال في الشهر الحرام.قال الجمل: فقوله «أكبر» خبر عن الثلاثة أعنى: صد وكفر وإخراج وفيه حينئذ احتمالان:أحدهما: أن يكون خبرا عن المجموع.وثانيهما: أن يكون خبرا عنها باعتبار كل واحد كما تقول: زيد وبكر وعمرو أفضل من خالد أى: كل واحد منهم على انفراده أفضل من خالد، وهذا هو الظاهر. والمفضل عليه محذوف أى: أكبر مما فعلته السرية»ثم أضاف- سبحانه- إلى جرائمهم السابقة جريمة خامسة فقال: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أى: ما فعله المشركون من إنزال الشدائد بالمؤمنين تارة بإلقاء الشبهات وتارة بالتعذيب ليحملوهم على ترك عقيدتهم أكبر إثما من القتل في الشهر الحرام، لأن الفتنة عن الدين تفضى إلى القتل الكثير في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة.وقيل المراد بالفتنة هنا الكفر. أى: كفركم بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام.وأصل الفتنة: عرض الذهب على النار، لاستخلاصه من الغش، ثم استعملت في الشرك وفي الامتحان بأنواع الأذى والاضطهاد.ويعزى إلى عبد الله بن جحش أنه قال ردا على المشركين عند ما قالوا: استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام.تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشدصدودكم عما يقول محمد ... وكفر به، والله راء وشاهدوإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجدفإنا وإن عيّرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسدسقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقددما، وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غل من القد عاندوقوله- تعالى-: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا بيان لشدة عداوة الكفار للمؤمنين ودوامها.أى: ولا يزال المشركون يقاتلونكم أيها المؤمنون ويضمرون لكم السوء ويداومون على إيذائكم لكي يرجعوكم عن دين الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وقدروا عليه. والتعبير بقوله «ولا يزالون» المفيد للدوام والاستمرار للإشعار بأن عداوة المشركين للمسلمين لا تنقطع، وأنهم لن يكفوا عن الإعداد لقتالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فعلى المؤمنين ألا يغفلوا عن الدفاع عن أنفسهم.وحَتَّى للتعليل أى: لا يزالون يقاتلونكم لكي يردوكم عن دينكم أو بمعنى إلى، أى: إلى أن يردوكم عن دينكم. والرد: الصرف عن الشيء والإرجاع إلى ما كان عليه قبل ذلك: فغاية المشركين أن يردوا المسلمين بعد إيمانهم كافرين.وقوله: إِنِ اسْتَطاعُوا يدل- كما يقول الزمخشري- على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين عن دينهم، وذلك كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي فلا تبق على. وهو واثق من أنه لن يظفر به. ويشهد لذلك التعبير بإن المفيدة للشك.وفائدة التقييد بالشرط «إن» التنبيه على سخافة عقول المشركين، وكون دوام عداوتهم للمؤمنين لن تؤدى إلى النتيجة التي يتمنونها وهي رد المسلمين عن دينهم، لأن لهذا الدين ربا يحميه، وأتباعه يفضلون الموت على الرجوع عنه.ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من يرتد عن الإسلام فقال: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ، فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع عن دينه إلى الكفر.وحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أى: بطلت وفسدت وأصله من الحبط، بفتح الباء- وهو أن تأكل الدابة أكلا كثيرا تنتفخ معه بطونها فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها وربما تموت من ذلك. شبه- سبحانه- حال من يعمل الأعمال الصالحة ثم يفسدها بارتداده فتكون وبالا عليه، بحال الدابة التي أكلت حتى أصابها الحبط ففسد حالها.والمعنى: ومن يرتدد منكم عن دين الإسلام، فيمت وهو كافر دون أن يعود إلى الإيمان، فأولئك الذين ارتدوا وماتوا على الكفر بطلت جميع أعمالهم الصالحة، وصارت غير نافعة لهم لا في الدنيا بسبب انسلاخهم عن جماعة المسلمين، ولا في الآخرة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر، وأولئك الذين هذا شأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا أبديا كسائر الكفرة، ولا يغنى عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا.وجيء بصيغة الافتعال من الردة وهي مؤذنة بالتكلف، للإشارة إلى أن من باشر الدين الحق وخالطت بشاشته قلبه كان من المستبعد عليه أن يرجع عنه، فهذا المرتد لم يكن مستقرا على هذا الدين الحق وإنما كان قلقا مضطربا غير مستقر حتى انتهى به الأمر بموته على الكفر لتكلفه الدخول في الدين الحق دون الثبات عليه.وفي قوله: مِنْكُمْ إشعار بأنه لا يتصور أن تتحقق بغية المشركين وهي أن يردوا المسلمين جميعا عن دينهم. بل أقصى ما يتصوره العقلاء أن ينالوا ضعيف الإيمان فيردوه إلى دينهم، فيكون الله- تعالى- قد نفى خبثه عن هذا الدين، إذ لا خير في هؤلاء المشركين ولا فيمن عاد إليهم بعد إيمانه، والكل مأواهم النار وبئس القرار.قال الجمل: ومن شرطية في محل رفع بالابتداء، يرتدد فعل الشرط، ومنكم متعلق بمحذوف لأنه حال من الضمير المستكن في يرتدد ومن للتبعيض، والتقدير: ومن يرتدد في حال كونه كائنا منكم أى بعضكم، وعن دينه متعلق بيرتدد، وقوله فيمت وهو كافر عطف على الشرط والفاء مؤذنة بالتعقيب، وقوله: وَهُوَ كافِرٌ جملة حالية من ضمير يمت. وقوله:فأولئك جواب الشرط. وقوله: وأولئك أصحاب النار مستأنف لمجرد الإخبار بأنهم أصحاب النار أو معطوف على جواب الشرط..» .وفي الإتيان باسم الإشارة «أولئك» في الموضعين تنبيه إلى أنهم أحرياء بتلك العقوبات الأليمة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر.وفي التنصيص على حبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة زيادة مذمة لهم، فهم في الدنيا- بسبب ردتهم- تسلب عنهم آثار كلمة الشهادتين من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليهم بعد الموت، والدفن في مقابر المسلمين، ومن طلاق زوجته المسلمة منه ومن عدم التوارث إلى غير ذلك من حقوق المسلمين، أما في الآخرة فشأنهم شأن الكافرين في ملازمتهم للنار. هذا، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة.1- حرمة القتال في الشهر الحرام، والجمهور على أن هذا الحكم منسوخ، وأنه لا حرج في قتال المشركين في الأشهر الحرم لقوله- تعالى-: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فإن المراد بالأشهر الحرم هنا: هي أشهر العهد الأربعة التي أبيح للمشركين السياحة فيها في الأرض، لا الأشهر الحرم الأربعة المعروفة، فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأزمنة والأمكنة. وأيضا لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم غزا هوازن وثقيف وأرسل بعض أصحابه إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم.قال الآلوسى: وخالف عطاء في ذلك، فقد روى عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله- تعالى- ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة، والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار» «2» .وقد رجح بعض العلماء ما ذهب إليه عطاء فقال: ومهما يكن فإن القتال في الأشهر الحرم حرام في حال الاختيار والابتداء فلا يصح البدء بالغزو فيه. ولقد قال جابر: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ.ولقد قال بعض العلماء: إن تحريم القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله- تعالى-:وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وبقتال النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل الطائف فيه. والحقيقة أنه لم يثبت ناسخ صريح في النسخ فإن قوله- تعالى-: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً العموم فيه بالنسبة للمقاتلين لا بالنسبة لزمان القتال، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يبتدئ قتالا في الشهر الحرام مختارا قط، والتحريم في الاختيار والابتداء كما بينا لا في البقاء والاضطرار، لذا قال- سبحانه-: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، ولأن الأشهر الحرم نص عليها في خطبة الوداع وكل ما جاء فيها غير منسوخ» .2- كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من الآية أن الردة تحبط العمل في الدنيا سواء أمات المرتد على كفره أم عاد إلى الإسلام قبل موته بدليل قوله- تعالى- في آية أخرى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فقد علق الحبوط بمجرد الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فالمراد أمته لاستحالة الشرك عليه. وعلى هذا الرأى سار المالكية والأحناف.ويرى الشافعية أن الردة تحبط العمل في الدنيا متى مات المرتد كافرا، لأن الآية تقول:وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ويظهر أثر الخلاف فيمن حج مسلما، ثم ارتد ثم أسلّم، فالأحناف والمالكية يوجبون عليه إعادة الحج لأن الردة أحبطت حجه. والشافعية يقولون: لا حج عليه لأن حجه قد سبق والردة لا تحبط العمل إلا إذا مات الشخص كافرا.ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه.

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم أخت أبيه في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وكتب لأميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال له : " سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد : فسر على بركة الله بمن معك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك تأتينا منها بخير فلما نظر في الكتاب قال : سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه ذلك وقال : إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز يقال له بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف .فبينما هم كذلك إذ مرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة فوق ثم أشرفوا عليهم فقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا : لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم وليمتنعن منكم فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله فكان أول قتيل من المشركين [ وهو أول قتيل في الهجرة وأدى النبي صلى الله عليه وسلم دية ابن الحضرمي إلى ورثته من قريش . قال مجاهد وغيره : لأنه كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد وادع أهل مكة سنتين أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه ]واستأسر الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت نوفل فأعجزهم واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالت قريش : قد استحل محمد الشهر الحرام فسفك فيه الدماء وأخذ الحرائب وعير بذلك أهل مكة من كان فيها من المسلمين وقالوا : يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه!وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا : يا رسول الله إنا قد قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى؟ وأكثر الناس في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس فكان أول خمس في الإسلام وقسم الباقي بين أصحاب السرية وكان أول غنيمة في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم ، فقال بل نقفهم حتى يقدم سعد وعقبة وإن لم يقدما قتلناهما بهما فلما قدما فاداهما فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة فمات بها كافرا وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية فهذا سبب نزول هذه الآيةقوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام ) يعني رجبا سمي بذلك لتحريم القتال فيه .( قتال فيه ) أي عن قتال فيه ) ( قل ) يا محمد ( قتال فيه كبير ) عظيم تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال ( وصد عن سبيل الله ) أي فصدكم المسلمين عن الإسلام ( وكفر به ) أي كفركم بالله ( والمسجد الحرام ) أي المسجد الحرام وقيل : وصدكم عن المسجد الحرام ( وإخراج أهله ) أي إخراج أهل المسجد ( منه أكبر ) وأعظم وزرا ( عند الله والفتنة ) أي الشرك الذي أنتم عليه ( أكبر من القتل ) أي من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن أنيس إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت الحرام ثم قال : ( ولا يزالون ) يعني مشركي مكة وهو فعل لا مصدر له مثل عسى ) ( يقاتلونكم ) يا معشر المؤمنين ( حتى يردوكم ) يصرفوكم ( عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت ) جزم بالنسق ( وهو كافر فأولئك حبطت ) بطلت ) ( أعمالهم ) حسناتهم ( في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدونفيه احدى عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : " يسألونك " تقدم القول فيه . وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ( ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة كلهن في القرآن : يسألونك عن المحيض ، يسألونك عن الشهر الحرام ، يسألونك عن اليتامى ، ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم ) . قال ابن عبد البر : ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث . وروى أبو اليسار عن جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الحارث أو عبيدة بن الحارث ، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : ولا تكرهن أصحابك على المسير ، فلما بلغ المكان قرأ الكتاب فاسترجع وقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله ، قال : فرجع رجلان ومضى بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب ، فقال المشركون : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام الآية . وروي أن سبب نزولها أن رجلين من بني كلاب لقيا عمرو بن أمية الضمري وهو لا يعلم أنهما كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أول يوم من رجب فقتلهما ، فقالت قريش : قتلهما في الشهر الحرام ، فنزلت الآية . والقول بأن نزولها في قصة عبد الله بن جحش أكثر وأشهر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه مع تسعة رهط ، وقيل ثمانية ، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين ، وقيل في رجب . قال أبو عمر - في كتاب الدرر له - : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر - وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى - أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجب ، وبعث في رجب عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين ، وهم أبو حذيفة بن عتبة ، وعكاشة بن محصن ، وعتبة بن غزوان ، وسهيل بن بيضاء الفهري ، وسعد بن أبي وقاص ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله التميمي ، وخالد بن بكير الليثي . وكتب لعبد الله بن جحش كتابا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه ، وكان أميرهم ، ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به ، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه : ( إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم ) . فلما قرأ الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ثم أخبر أصحابه بذلك ، وبأنه لا يستكره أحدا منهم ، وأنه ناهض لوجهه بمن أطاعه ، وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده ، فمن أحب الشهادة فلينهض ، ومن كره الموت فليرجع . فقالوا : كلنا نرغب فيما ترغب فيه ، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهضوا معه ، فسلك على الحجاز ، وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ، ونفذ عبد الله بن جحش مع سائرهم لوجهه حتى نزل بنخلة ، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي - واسم الحضرمي عبد الله بن عباد من الصدف ، والصدف بطن من حضرموت - وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان ، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة ، فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام ، فإن نحن قاتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام : وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ، ثم اتفقوا على لقائهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله ، ثم قدموا بالعير والأسيرين ، وقال لهم عبد الله بن جحش : اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ، فكان أول خمس في الإسلام ، ثم نزل القرآن : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة ، وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام ، وأول أمير ، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل . وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فسقط في أيدي القوم ، فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه إلى قوله : هم فيها خالدون . وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين ، فأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافرا ، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة ، ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين . وقيل : إن انطلاق سعد بن أبي وقاص وعتبة في طلب بعيرهما كان عن إذن من عبد الله بن جحش ، وإن عمرو بن الحضرمي وأصحابه لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم ، فقال عبد الله بن جحش : إن القوم قد فزعوا منكم ، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم ، فإذا رأوه محلوقا أمنوا وقالوا : قوم عمار لا بأس عليكم ، وتشاوروا في قتالهم ، الحديث . وتفاءلت اليهود وقالوا : واقد وقدت الحرب ، وعمرو عمرت الحرب ، والحضرمي حضرت الحرب . وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم ، فقال : لا نفديهما حتى يقدم سعد وعتبة ، وإن لم يقدما قتلناهما بهما ، فلما قدما فاداهما ، فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأما عثمان فرجع إلى مكة فمات بها كافرا ، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا فقتله الله تعالى ، وطلب المشركون جيفته بالثمن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية فهذا سبب نزول قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام . وذكر ابن إسحاق أن قتل عمرو بن الحضرمي كان في آخر يوم من رجب ، على ما تقدم . وذكر الطبري عن السدي وغيره أن ذلك كان في آخر يوم من جمادى الآخرة ، والأول أشهر ، على أن ابن عباس قد ورد عنه أن ذلك كان في أول ليلة من رجب ، والمسلمون يظنونها من جمادى . قال ابن عطية : وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت لكونه مؤمرا على جماعة من المؤمنين .الثانية واختلف العلماء في نسخ هذه الآية ، فالجمهور على نسخها ، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح . واختلفوا في ناسخها ، فقال الزهري : نسخها " وقاتلوا المشركين كافة " . وقيل نسخها غزو النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام ، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام . وقيل : نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة ، وهذا ضعيف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم . وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي : فأنزل الله عز وجل : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه الآية ، قال : فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان ، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرهم بالله وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين ، وفتنتهم إياهم عن الدين ، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه ، حتى أنزل الله عز وجل : " براءة من الله ورسوله " . وكان عطاء يقول : الآية محكمة ، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم ، ويحلف على ذلك ؛ لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة ، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق . وروى أبو الزبير عن جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى .الثالثة : قوله تعالى : " قتال فيه " " قتال " بدل عند سيبويه بدل اشتمال ؛ لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال ، أي يسألك الكفار تعجبا من هتك حرمة الشهر ، فسؤالهم عن الشهر إنما كان لأجل القتال فيه . قال الزجاج : المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام . وقال القتبي : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز ؟ فأبدل قتالا من الشهر ، وأنشد سيبويه [ للشاعر عبدة بن الطيب ] :فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدماوقرأ عكرمة : " يسألونك عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل " بغير ألف فيهما . وقيل : المعنى يسألونك عن الشهر الحرام وعن قتال فيه ، وهكذا قرأ ابن مسعود ، فيكون مخفوضا بعن على التكرير ، قاله الكسائي . وقال الفراء : هو مخفوض على نية عن . وقال أبو عبيدة : هو مخفوض على الجوار . قال النحاس : لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام ، وإنما الجوار غلط ، وإنما وقع في شيء شاذ ، وهو قولهم : هذا جحر ضب خرب ، والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية : هذان : جحرا ضب خربان ، وإنما هذا بمنزلة الإقواء ، ولا يجوز أن يحمل شيء من كتاب الله على هذا ، ولا يكون إلا بأفصح اللغات وأصحها . قال ابن عطية : وقال أبو عبيدة : هو خفض على الجوار ، وقوله هذا خط . قال النحاس : ولا يجوز إضمار " عن " ، والقول فيه أنه بدل . وقرأ الأعرج : " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " بالرفع . قال النحاس : وهو غامض في العربية ، والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه ؟ فقوله : " يسألونك " يدل على الاستفهام ، كما قال امرؤ القيس :أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكللوالمعنى : أترى برقا ، فحذف ألف الاستفهام ؛ لأن الألف التي في " أصاح " تدل عليها وإن كانت حرف نداء ، كما قال الشاعر :تروح من الحي أم تبتكروالمعنى : أتروح ، فحذف الألف لأن " أم " تدل عليها .الرابعة : قوله تعالى : قل قتال فيه كبير ابتداء وخبر ، أي مستنكر ؛ لأن تحريم القتال في الشهر الحرام كان ثابتا يومئذ إذ كان الابتداء من المسلمين . والشهر في الآية اسم جنس ، وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده ، فكانت لا تسفك دما ، ولا تغير في الأشهر الحرم ، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ثلاثة سرد وواحد فرد . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " المائدة " إن شاء الله تعالى .الخامسة : قوله تعالى : وصد عن سبيل الله ابتداء " وكفر به " عطف على " صد " " والمسجد الحرام " عطف على " سبيل الله " " وإخراج أهله منه " عطف على " صد " ، وخبر الابتداء " أكبر عند الله " أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام ، قاله المبرد وغيره . وهو الصحيح ، لطول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها . " وكفر به " أي بالله ، وقيل : " وكفر به " أي بالحج والمسجد الحرام . " وإخراج أهله منه أكبر " أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام . وقال الفراء : " صد " عطف على " كبير " . " والمسجد " عطف على الهاء في به ، فيكون الكلام نسقا متصلا غير منقطع . قال ابن عطية : وذلك خطأ ؛ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : " وكفر به " أي بالله عطف أيضا على " كبير " ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله ، وهذا بين فساده . ومعنى الآية على قول الجمهور : إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن كفركم بالله وإخراجكم أهل المسجد منه ، كما فعلتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر جرما عند الله . وقال عبد الله بن جحش رضي الله عنه :تعدون قتلا في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشدصدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راء وشاهدوإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجدفإنا وإن غيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسدسقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقددما وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القد عاندوقال الزهري ومجاهد وغيرهما : قوله تعالى : قل قتال فيه كبير منسوخ بقوله : وقاتلوا المشركين كافة وبقوله : فاقتلوا المشركين . وقال عطاء : لم ينسخ ، ولا ينبغي القتال في الأشهر الحرم ، وقد تقدم .السادسة : قوله تعالى : والفتنة أكبر من القتل قال مجاهد وغيره : الفتنة هنا الكفر ، أي كفركم أكبر من قتلنا أولئك . وقال الجمهور : معنى الفتنة هنا فتنتهم المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا ، أي أن ذلك أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام .السابعة : قوله تعالى : " ولا يزالون " ابتداء خبر من الله تعالى ، وتحذير منه للمؤمنين من شر الكفرة . قالمجاهد : يعني كفار قريش . " يردوكم " نصب بحتى ؛ لأنها غاية مجردة .الثامنة : قوله تعالى : " ومن يرتدد " أي يرجع عن الإسلام إلى الكفر . " فأولئك حبطت " أي بطلت وفسدت ، ومنه الحبط وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها ، وربما تموت من ذلك ، فالآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام .التاسعة : واختلف العلماء في المرتد هل يستتاب أم لا ؟ وهل يحبط عمله بنفس الردة أم لا ، إلا على الموافاة على الكفر ؟ وهل يورث أم لا ؟ فهذه ثلاث مسائل :الأولى : قالت طائفة : يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، وقال بعضهم : ساعة واحدة . وقال آخرون : يستتاب شهرا . وقال آخرون : يستتاب ثلاثا ، على ما روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك رواه عنه ابن القاسم . وقال الحسن : يستتاب مائة مرة ، وقد روي عنه أنه يقتل دون استتابة ، وبه قال الشافعي في أحد قوليه ، وهو أحد قولي طاوس وعبيد بن عمير . وذكر سحنون أن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون كان يقول : يقتل المرتد ولا يستتاب ، واحتج بحديث معاذ وأبي موسى ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه قال : انزل ، وألقى إليه وسادة ، وإذا رجل عنده موثق قال : ما هذا ؟ قال : هذا كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود . قال : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله ، فقال : اجلس . قال : نعم لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله - ثلاث مرات - فأمر به فقتل ، خرجه مسلم وغيره . وذكر أبو يوسف عن أبي حنيفة أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه ، إلا أن يطلب أن يؤجل ، فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام ، والمشهور عنه وعن أصحابه أن المرتد لا يقتل حتى يستتاب . والزنديق عندهم والمرتد سواء . وقال مالك : وتقتل الزنادقة ولا يستتابون . وقد مضى هذا أول " البقرة " . واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر ، فقال مالك وجمهور الفقهاء : لا يتعرض له ؛ لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه . وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه يقتل ، لقوله عليه السلام : من بدل دينه فاقتلوه ولم يخص مسلما من كافر . وقال مالك : معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر ، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث ، وهو قول جماعة من الفقهاء . والمشهور عن الشافعي ما ذكره المزني والربيع أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب ويخرجه من بلده ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار ؛ لأنه إنما جعل له الذمة على الدين الذي كان عليه في حين عقد العهد . واختلفوا في المرتدة ، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد : تقتل كما يقتل المرتد سواء ، وحجتهم ظاهر الحديث : من بدل دينه فاقتلوه . و " من " يصلح للذكر والأنثى . وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه : لا تقتل المرتدة ، وهو قول ابن شبرمة ، وإليه ذهب ابن علية ، وهو قول عطاء والحسن . واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من بدل دينه فاقتلوه ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة ، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله ، وروي عن علي مثله . ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان . واحتج الأولون بقوله عليه السلام : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان . . . فعم كل من كفر بعد إيمانه ، وهو أصح .العاشرة : قال الشافعي : إن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام لم يحبط عمله ولا حجه الذي فرغ منه ، بل إن مات على الردة فحينئذ تحبط أعماله . وقال مالك : تحبط بنفس الردة ، ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحج ؛ لأن الأول قد حبط بالردة . وقال الشافعي : لا إعادة عليه ؛ لأن عمله باق . واستظهر علماؤنا بقوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك . قالوا : وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ؛ لأنه عليه السلام يستحيل منه الردة شرعا . وقال أصحاب الشافعي : بل هو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة ، وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله ، فكيف أنتم! لكنه لا يشرك لفضل مرتبته ، كما قال : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ، وذلك لشرف منزلتهن ، وإلا فلا يتصور إتيانه منهن صيانة لزوجهن المكرم المعظم ؛ ابن العربي . وقال علماؤنا : إنما ذكر الله الموافاة شرطا هاهنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاء ، فمن وافى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية ، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى ، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين ، وحكمين متغايرين . وما خوطب به عليه السلام فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه ، وما ورد في أزواجه فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكان : أحدهما لحرمة الدين ، والثاني لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكل هتك حرمة عقاب ، وينزل ذلك منزلة من عصى في الشهر الحرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام ، يضاعف عليه العذاب بعدد ما هتك من الحرمات . والله أعلم .الحادية عشرة : وهي اختلاف العلماء في ميراث المرتد ، فقال علي بن أبي طالب والحسن والشعبي والحكم والليث وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه : ميراث المرتد لورثته من المسلمين . وقال مالك وربيعة وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور : ميراثه في بيت المال . وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين : ما اكتسبه المرتد بعد الردة فهو لورثته المسلمين . وقال أبو حنيفة : ما اكتسبه المرتد في حال الردة فهو فيء ، وما كان مكتسبا في حالة الإسلام ثم ارتد يرثه ورثته المسلمون ، وأما ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد فلا يفصلون بين الأمرين ، ومطلق قوله عليه السلام : لا وراثة بين أهل ملتين يدل على بطلان قولهم . وأجمعوا على أن ورثته من الكفار لا يرثونه ، سوى عمر بن عبد العزيز فإنه قال : يرثونه .
ex