سورة البقرة : الآية 115

تفسير الآية 115 سورة البقرة

وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

ولله جهتا شروق الشمس وغروبها وما بينهما، فهو مالك الأرض كلها. فأي جهة توجهتم إليها في الصلاة بأمر الله لكم فإنكم مبتغون وجهه، لم تخرجوا عن ملكه وطاعته. إن الله واسع الرحمة بعباده، عليم بأفعالهم، لا يغيب عنه منها شيء.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

ونزل لما طعن اليهود في نسخ القبلة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيثما توجهت «ولله المشرق والمغرب» أي الأرض كلها لأنهما ناحيتها «فأينما تولوا» وجوهكم في الصلاة بأمره «فثمَّ» هناك «وجه الله» قبلته التي رضيها «إن الله واسع» يسع فضله كل شئ «عليم» بتدبير خلقه.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

أي: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ خصهما بالذكر, لأنهما محل الآيات العظيمة, فهما مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكا لها, كان مالكا لكل الجهات. فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا وجوهكم من الجهات, إذا كان توليكم إياها بأمره, إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس, أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها, فإن القبلة حيثما توجه العبد أو تشتبه القبلة, فيتحرى الصلاة إليها, ثم يتبين له الخطأ, أو يكون معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك، فهذه الأمور, إما أن يكون العبد فيها معذورا أو مأمورا. وبكل حال, فما استقبل جهة من الجهات, خارجة عن ملك ربه. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ فيه إثبات الوجه لله تعالى, على الوجه اللائق به تعالى, وأن لله وجها لا تشبهه الوجوه, وهو - تعالى - واسع الفضل والصفات عظيمها, عليم بسرائركم ونياتكم. فمن سعته وعلمه, وسع لكم الأمر, وقبل منكم المأمور, فله الحمد والشكر.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه . فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ، ولهذا يقول تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله )قال أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب الناسخ والمنسوخ : أخبرنا حجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة : قال تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها ، فقال : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة . وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس . ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء [ فلنولينك قبلة ترضاها ] ) إلى قوله : ( فولوا وجوهكم شطره ) فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فأنزل الله : ( قل لله المشرق والمغرب [ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ] ) وقال : ( فأينما تولوا فثم وجه الله )وقال عكرمة عن ابن عباس : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) قال : قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا . وقال مجاهد : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) [ قال : قبلة الله ] حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها : الكعبة .وقال ابن أبي حاتم بعد روايته الأثر المتقدم ، عن ابن عباس ، في نسخ القبلة ، عن عطاء ، عنه : وروي عن أبي العالية ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، نحو ذلك .وقال ابن جرير : وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ، وإنما أنزلها تعالى ليعلم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة ، حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ; لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية ; لأن له تعالى المشارق والمغارب ، وأنه لا يخلو منه مكان ، كما قال تعالى : ( ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) [ المجادلة : 7 ] قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام .هكذا قال ، وفي قوله : " وإنه تعالى لا يخلو منه مكان " : إن أراد علمه تعالى فصحيح ; فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات ، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من الله أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة وشدة الخوف .حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن إدريس ، حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر : أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته . ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ويتأول هذه الآية : ( فأينما تولوا فثم وجه الله )ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه ، من طرق ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، به . وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة ، من غير ذكر الآية .وفي صحيح البخاري من حديث نافع ، عن ابن عمر : أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها . ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها .قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم .مسألة : ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه ، بين سفر المسافة وسفر العدوى ، فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على الراحلة ، وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته ، واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري ، التطوع على الدابة في المصر ، وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، واختاره أبو جعفر الطبري ، حتى للماشي أيضا .قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة ، فلم يعرفوا شطرها ، فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي ، وهو قبلتكم ، فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية .حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه . فلما [ أن ] أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة . فقلنا : يا رسول الله ، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ؟ فأنزل الله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) الآية .ثم رواه عن سفيان بن وكيع ، عن أبيه ، عن أبي الربيع السمان ، بنحوه .ورواه الترمذي ، عن محمود بن غيلان ، عن وكيع . وابن ماجه ، عن يحيى بن حكيم ، عن أبي داود ، عن أبي الربيع السمان .ورواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن سعيد بن سليمان ، عن أبي الربيع السمان واسمه أشعث بن سعيد البصري وهو ضعيف الحديث .وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ليس إسناده بذاك ، ولا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان ، وأشعث يضعف في الحديث .قلت : وشيخه عاصم أيضا ضعيف .قال البخاري : منكر الحديث . وقال ابن معين : ضعيف لا يحتج به . وقال ابن حبان : متروك ، والله أعلم .وقد روي من طرق أخرى ، عن جابر .وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب ، حدثني أحمد بن عبيد الله بن الحسن ، قال : وجدت في كتاب أبي : حدثنا عبد الملك العرزمي ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها ، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ، فقالت طائفة منا : قد عرفنا القبلة ، هي هاهنا قبل السماك . فصلوا وخطوا خطوطا ، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة . فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكت ، وأنزل الله تعالى : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله )ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي ، عن عطاء ، عن جابر ، به .وقال الدارقطني : قرئ على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو ، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، عن محمد بن سالم ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم ، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة ، فصلى كل منا على حدة ، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا ، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة ، وقال : " قد أجزأت صلاتكم " .ثم قال الدارقطني : كذا قال : عن محمد بن سالم ، وقال غيره : عن محمد بن عبد الله العرزمي ، عن عطاء ، وهما ضعيفان .ثم رواه ابن مردويه أيضا من حديث الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة ، فلم يهتدوا إلى القبلة ، فصلوا لغير القبلة . ثم استبان لهم بعد طلوع الشمس أنهم صلوا لغير القبلة . فلما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه ، فأنزل الله عز وجل ، هذه الآية : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله )وهذه الأسانيد فيها ضعف ، ولعله يشد بعضها بعضا . وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء ، وهذه دلائل على عدم القضاء ، والله أعلم .قال ابن جرير : وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي ، كما حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا هشام بن معاذ حدثني أبي ، عن قتادة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه " . قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم ؟ قال : فنزلت : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) [ آل عمران : 199 ] قال قتادة : فقالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة . فأنزل الله : ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .وهذا غريب والله أعلم .وقد قيل : إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة ، كما حكاه القرطبي عن قتادة ، وذكر القرطبي أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب ، قال : وهذا خاص عند أصحابنا من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه عليه السلام ، شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض . الثاني : أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه ، واختاره ابن العربي ، قال القرطبي : ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على دينه ، وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت . وهذا جواب جيد . الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك ، والله أعلم .وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق " .وله مناسبة هاهنا ، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر ، واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني ، به " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .وقال الترمذي : وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة . وتكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه ، ثم قال الترمذي : حدثني الحسن بن [ أبي ] بكر المروزي ، حدثنا المعلى بن منصور ، حدثنا عبد الله بن جعفر المخزومي ، عن عثمان بن محمد الأخنسي ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .وحكى عن البخاري أنه قال : هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح . قال الترمذي : وقد روي عن غير واحد من الصحابة : ما بين المشرق والمغرب قبلة منهم عمر بن الخطاب ، وعلي ، وابن عباس .وقال ابن عمر : إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك ، فما بينهما قبلة ، إذا استقبلت القبلة .ثم قال ابن مردويه : حدثنا علي بن أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا يعقوب بن يونس مولى بني هاشم ، حدثنا شعيب بن أيوب ، حدثنا ابن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .وقد رواه الدارقطني والبيهقي وقال المشهور : عن ابن عمر ، عن عمر ، قوله .قال ابن جرير : ويحتمل : فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم ، كما حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال مجاهد : لما نزلت : ( ادعوني أستجب لكم ) [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : ( فأينما تولوا فثم وجه الله )قال ابن جرير : ويعني قوله : ( إن الله واسع عليم ) يسع خلقه كلهم بالكفاية ، والإفضال والجود .وأما قوله : ( عليم ) فإنه يعني : عليم بأعمالهم ، ما يغيب عنه منها شيء ، ولا يعزب عن علمه ، بل هو بجميعها عليم .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

المشرق والمغرب: مكان شروق الشمس وغروبها، والمراد بهما هنا جميع جهات الأرض.واللام في قوله: «ولله» تفيد معنى الملك.والتولية: التوجه من جهة إلى أخرى. و (ثم) اسم إشارة للمكان.والوجه: الجهة، فوجه الله الجهة التي ارتضاها وأمر بالتوجه إليها وهي القبلة.والمعنى: أن جميع الأرض ملك لله وحده، ففي أى مكان من المشرق والمغرب توليتم شطر القبلة التي أمركم الله بها ورضيها لكم، فهناك جهته- سبحانه- التي أمرتم بها، والتي تبرأ ذممكم باستقبالها.ومعنى هذا: الإذن بإقامة الصلاة في أى مكان من الأرض دون أن تختص بها المساجد، ففي الحديث الشريف: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .وكأن الآية تومي، إلى أن سعى أولئك الظالمين في منع المساجد من ذكره- تعالى- وتخريبها، لا يمنع من أداء العبادة لله- تعالى-: لأن له المشرق والمغرب وما بينهما، فأينما حل الإنسان وتحرى القبلة المأمور بالتوجه إليها فهناك جهة الله المطلوب منه استقبالها.وذيلت الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ لإفادة سعة ملكه أو سعة تيسيره على عباده في أمر الدين. أى: إن الله يسع خلقه جميعا برحمته وتيسيره وجوده وهو عليم بأعمالهم لا يخفى عليه عمل عامل أينما كان وكيفما كان.ثم حكى القرآن بعض الأقاويل الباطلة التي افتراها أصحاب القلوب المريضة فقال-- تعالى-:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله عز وجل: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله قال ابن عباس رضي الله عنهما: "خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا وأنهم مخطئون في تحريهم فلما قدموا سألوا رسول الله عن ذلك فنزلت هذه الآية".وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "نزلت في المسافر يصلي التطوع حيث ما توجهت به راحلته".أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أنا زاهر بن أحمد الفقيه السرخسي أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به".قال عكرمة: "نزلت في تحويل القبلة"، قال أبو العالية:"لما صرفت القبلة إلى الكعبة عيرت اليهود المؤمنين وقالوا: ليست لهم قبلة معلومة فتارة يستقبلون هكذا وتارة هكذا، فأنزل الله تعالى هذه الآية".وقال مجاهد والحسن : "لما نزلت وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [60-غافر] قالوا: أين ندعوه فأنزل الله عز وجل ولله المشرق والمغرب ملكاً وخلقاً".فأينما تولوا فثم وجه الله يعني أينما تحولوا وجوهكم فثم أي: هناك رحمة الله، قال الكلبي: "فثم الله يعلم ويرى والوجه صلة كقوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه [88-القصص أي إلا هو"،وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حبان: "فثم قبلة الله"، والوجه والوجهة والجهة القبلة،وقيل: رضا الله تعالى.إن الله واسع أي غني يعطي في السعة، قال الفراء: "الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء"، قال الكلبي: "واسع المغفرة.عليم بنياتهم حيثما صلوا ودعوا.

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب المشرق موضع الشروق . والمغرب موضع الغروب ، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع ، كما تقدم . وخصهما بالذكر والإضافة إليه تشريفا ، نحو بيت الله ، وناقة الله ، ولأن سبب الآية اقتضى ذلك ، على ما يأتيالثانية : قوله تعالى : فأينما تولوا شرط ، ولذلك حذفت النون ، و " أين " العاملة ، و " ما " زائدة ، والجواب فثم وجه الله . وقرأ الحسن تولوا بفتح التاء واللام ، والأصل تتولوا . وثم في موضع نصب على الظرف ، ومعناها البعد ، إلا أنها مبنية على الفتح غير معربة لأنها مبهمة ، تكون بمنزلة هناك للبعد ، فإن أردت القرب قلت هنا .الثالثة : اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه فأينما تولوا على خمسة أقوال : فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة ، أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ، فصلى كل رجل منا على حياله ، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : فأينما تولوا فثم وجه الله . قال أبو عيسى : هذا حديث ليس إسناده بذاك ، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان ، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث . وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا ، قالوا : إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة ، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق .قلت : وهو قول أبي حنيفة ومالك ، غير أن مالكا قال : تستحب له الإعادة في الوقت ، وليس ذلك بواجب عليه ; لأنه قد أدى فرضه على ما أمر ، والكمال يستدرك في الوقت ، استدلالا بالسنة فيمن صلى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم ، ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرق أو غرب جدا مجتهدا ، وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره . وقال المغيرة والشافعي : لا يجزيه ; لأن القبلة شرط من شروط الصلاة . وما قاله مالك أصح ; لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة ، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر . وقال ابن عمر : نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته . أخرجه مسلم عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه ، قال : وفيه نزلت فأينما تولوا فثم وجه الله . ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله . ولا يجوز لأحد أن يدع القبلة عامدا بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف ، على ما يأتي .واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله ، فمرة قال : لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه . قال سحنون : فإن فعل أعاد ، حكاه الباجي . ومرة قال : إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح أن يصلي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة ، على ما يأتي بيانه .واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة ، فقال مالك وأصحابه والثوري : لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة ، قالوا : لأن الأسفار التي حكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتطوع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة . وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي : يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر ، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا ; لأن الآثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر ، فكل سفر جائز ذلك فيه ، إلا أن يخص شيء من الأسفار بما يجب التسليم له . وقال أبو يوسف : يصلي في المصر على الدابة بالإيماء ، لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء . وقال الطبري : يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه [ بالإيماء ] . وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر . وقال الأثرم : قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر ، فقال : أما في السفر فقد سمعت ، وما سمعت في الحضر . قال ابن القاسم : من تنفل في محمله تنفل جالسا ، قيامه تربع ، يركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه . وقال قتادة : نزلت في النجاشي ، وذلك أنه لما مات دعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة ، فقالوا : كيف نصلي على رجل مات ؟ وهو يصلي لغير قبلتنا ، وكان النجاشي ملك الحبشة - واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية - يصلي إلى بيت المقدس حتى مات ، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية ، ونزل فيه : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله فكان هذا عذرا للنجاشي ، وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه سنة تسع من الهجرة . وقد استدل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب ، وهو الشافعي . قال ابن العربي : ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي : يصلى على الغائب ، وقد كنت ببغداد في مجلس الإمام فخر الإسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له : كيف حال فلان ؟ فيقول له : مات ، فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعونثم يقول لنا : قوموا فلأصل لكم ، فيقوم فيصلي عليه بنا ، وذلك بعد ستة أشهر من المدة ، وبينه وبين بلده ستة أشهر .والأصل عندهم في ذلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي . وقال علماؤنا رحمة الله عليهم : النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مخصوص لثلاثة أوجه :أحدها : أن الأرض دحيت له جنوبا وشمالا حتى رأى نعش النجاشي كما دحيت له شمالا وجنوبا حتى رأى المسجد الأقصى . وقال المخالف : وأي فائدة في رؤيته ، وإنما الفائدة في لحوق بركته .الثاني : أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه . قال المخالف : هذا محال عادة ! ملك على دين لا يكون له أتباع ، والتأويل بالمحال محال .الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيا وميتا . قال المخالف : بركة الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن سواه تلحق الميت باتفاق . قال ابن العربي : والذي عندي في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر ، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه .قلت : والتأويل الأول أحسن ; لأنه إذا رآه فما صلى على غائب وإنما صلى على مرئي حاضر ، والغائب ما لا يرى . والله تعالى أعلم .القول الرابع : قال ابن زيد : كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وقالوا : ما اهتدى إلا بنا ، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فنزلت : ولله المشرق والمغرب فوجه النظم على هذا القول : أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء ، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس ، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة ، فعل لا حجة عليه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .القول الخامس : أن الآية منسوخة بقوله : وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ذكره ابن عباس ، فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك . وقال قتادة : الناسخ قوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام أي تلقاءه ، حكاه أبو عيسى الترمذي .القول السادس : روي عن مجاهد والضحاك أنها محكمة ، المعنى : أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة . وعن مجاهد أيضا وابن جبير لما نزلت : ادعوني أستجب لكم قالوا : إلى أين ؟ فنزلت : فأينما تولوا فثم وجه الله . وعن ابن عمر والنخعي : أينما تولوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فثم وجه الله . وقيل : هي متصلة بقوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه الآية ، فالمعنى أن بلاد الله أيها المؤمنون تسعكم ، فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه . وقيل : نزلت حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية فاغتم المسلمون لذلك . فهذه عشرة أقوال .ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرا ; لأنها محتملة لمعنى الأمر . يحتمل أن يكون معنى فأينما تولوا فثم وجه الله : ولوا وجوهكم نحو وجه الله ، وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جبير رحمه الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض .الرابعة : اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة ، فقال الحذاق : ذلك راجع إلى الوجود ، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام ، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا . وقال ابن فورك : قد تذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسعا ، كما يقول القائل : رأيت علم فلان اليوم ، ونظرت إلى علمه ، وإنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم ، كذلك إذا ذكر الوجه هنا ، والمراد من له الوجه ، أي الوجود . وعلى هذا يتأول قوله تعالى : إنما نطعمكم لوجه الله لأن المراد به : لله الذي له الوجه ، وكذلك قوله : إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى أي الذي له الوجه . قال ابن عباس : الوجه عبارة عنه عز وجل ، كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . وقال بعض الأئمة : تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى . قال ابن عطية : وضعف أبو المعالي هذا القول ، وهو كذلك ضعيف ، وإنما المراد وجوده . وقيل : المراد بالوجه هنا الجهة التي وجهنا إليها أي القبلة . وقيل : الوجه القصد ، كما قال الشاعر :أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعملوقيل : المعنى فثم رضا الله وثوابه ، كما قال : إنما نطعمكم لوجه الله أي لرضائه وطلب ثوابه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة .وقوله : يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرا وهو أعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي أي خالصا لي ، خرجه الدارقطني . وقيل : المراد فثم الله ، والوجه صلة ، وهو كقوله : وهو معكم . قاله الكلبي والقتبي ، ونحوه قول المعتزلة .الخامسة : قوله تعالى : إن الله واسع عليم أي يوسع على عباده في دينهم ، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم . وقيل : واسع بمعنى أنه يسع علمه كل شيء ، كما قال : وسع كل شيء علما . وقال الفراء : الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء ، دليله قوله تعالى : ورحمتي وسعت كل شيء . وقيل : واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب . وقيل : متفضل على العباد وغني عن أعمالهم ، يقال : فلان يسع ما يسأل ، أي لا يبخل ، قال الله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته أي لينفق الغني مما أعطاه الله . وقد أتينا عليه في الكتاب " الأسنى " والحمد لله .
ex