سورة الأعراف : الآية 175

تفسير الآية 175 سورة الأعراف

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِىٓ ءَاتَيْنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

واقصص -أيها الرسول- على أمتك خبر رجل من بني إسرائيل أعطيناه حججنا وأدلتنا، فتعلَّمها، ثم كفر بها، ونبذها وراء ظهره، فاستحوذ عليه الشيطان، فصار من الضالين الهالكين؛ بسبب مخالفته أمر ربه وطاعته الشيطان.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«واتل» يا محمد «عليهم» أي اليهود «نبأ» خبر «الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها» خرج بكفره كما تخرج الحية من جلدها، وهو بلعم بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، سُئل أن يدعو على موسى وأُهدي إليه شيء، فدعا فانقلب عليه اندلع لسانه على صدره «فأتبعه الشيطان» فأدركه فصار قرينه «فكان من الغاوين».

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أي: علمناه كتاب اللّه، فصار العالم الكبير والحبر النحرير. فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس. فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزه إلى المعاصي أزا. فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ بعد أن كان من الراشدين المرشدين.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

قال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، في قوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها [ فأتبعه ] ) الآية ، قال : هو رجل من بني إسرائيل ، يقال له : بلعم بن أبر . وكذا رواه شعبة وغير واحد ، عن منصور ، به .وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] هو صيفي بن الراهب .قال قتادة : وقال كعب : كان رجلا من أهل البلقاء ، وكان يعلم الاسم الأكبر ، وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين .وقال العوفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] هو رجل من أهل اليمن ، يقال له : بلعم ، آتاه الله آياته فتركها .وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة ، يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مدين يدعوه إلى الله ، فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه وترك دين موسى ، عليه السلام .وقال سفيان بن عيينة ، عن حصين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] هو بلعم بن باعر . وكذا قال مجاهد وعكرمة .وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال : هو بلعام - وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت .وقال شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ] في قوله : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه [ آياتنا ] ) قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت .وقد روي من غير وجه ، عنه وهو صحيح إليه ، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة ، قبحه الله [ تعالى ] وقد جاء في بعض الأحاديث : " أنه ممن آمن لسانه ، ولم يؤمن قلبه " ; فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها واحدة . قال : فلك واحدة ، فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل . فدعا الله ، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، وأرادت شيئا آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة ، فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان . فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت الدعوات الثلاث ، وسميت البسوس . غريب .وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو رجل من مدينة الجبارين ، يقال له : " بلعام " وكان يعلم اسم الله الأكبر .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره من علماء السلف : كان [ رجلا ] مجاب الدعوة ، ولا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه .وأغرب ، بل أبعد ، بل أخطأ من قال : كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها . حكاه ابن جرير ، عن بعضهم ، ولا يصحوقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم - يعني بالجبارين - ومن معه ، أتاه يعني بلعام - أتاه بنو عمه وقومه ، فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه . قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ، ذهبت دنياي وآخرتي . فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخه الله ما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : ( فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان [ من الغاوين ] )وقال السدي : إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ) [ المائدة : 26 ] بعث يوشع بن نون نبيا ، فدعا بني إسرائيل ، فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله [ قد ] أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه . وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له : " بلعم " وكان عالما ، يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعوا عليهم دعوة فيهلكون ! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا ، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء ، يعظمهن فكان ينكح أتانا له ، وهو الذي قال الله تعالى ) فانسلخ منها )وقوله : ( فأتبعه الشيطان ) أي : استحوذ عليه وغلبه على أمره ، فمهما أمره امتثل وأطاعه ; ولهذا قال : ( فكان من الغاوين ) أي : من الهالكين الحائرين البائرين .وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا محمد بن بكر ، عن الصلت بن بهرام ، حدثنا الحسن ، حدثنا جندب البجلي في هذا المسجد ; أن حذيفة - يعني ابن اليمان ، رضي الله عنه - حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن ، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان ردء الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله ، انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ، ورماه بالشرك " . قال : قلت : يا نبي الله ، أيهما أولى بالشرك : المرمي أو الرامي ؟ قال : " بل الرامي " .هذا إسناد جيد والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء ، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وغيرهما .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

قال صاحب المنار: هذا مثل ضربه الله- تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات، لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض، أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له، كالثوب الخلق يلقيه صاحبه، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر:خلقوا، وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوارزقوا، وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوافحاصل معنى المثل: أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه، لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص».وقوله- تعالى- وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها أى: اقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الإنسان الذي آتيناه آياتنا بأن علمناه إياه، وفهمناه مراميها، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة، أو الحية من جلدها.والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها، ونبذها وراء ظهره، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات.وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه. وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة وقوله: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أى: فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين في الغواية، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين:وفي التعبير بقوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ مبالغة في ذم هذا الإنسان وتحقيره، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه، فهو على حد قول الشاعر:وكان فتى من جند إبليس فارتقى ... به الحال حتى صار إبليس من جندهقال الجمل: أتبعه فيه وجهان:أحدهما: أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه، وهو مبالغة في حقه حيث جعل إماما للشيطان.وثانيهما: أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فأتبعه الشيطان خطواته، أى جعله تابعا لها:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) الآية . اختلفوا فيه ، قال ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء . وقال مجاهد : بلعام بن باعر . وقال عطية عن ابن عباس : كان من بني إسرائيل . وروي عن علي بن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا .وكانت قصته - على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم - أن موسى لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم إلى بلعم - وكان عنده اسم الله الأعظم - فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جند كثير ، وإنه جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله أن يردهم عنا ، فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم ، وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي ، فراجعوه وألحوا عليه فقال : حتى أؤامر ربي ، وكان لا يدعوه حتى ينظر ما يؤمر به في المنام فآمر في الدعاء عليهم ، فقيل له في المنام : لا تدع عليهم ، فقال لقومه : إني قد آمرت ربي وإني قد نهيت فأهدوا إليه هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقال : حتى أؤامر ، فآمر ، فلم يوح إليه شيء ، فقال : قد آمرت فلم يجز إلي شيء ، فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى ، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له حسبان ، فلما سار عليها غير كثير ربضت به ، فنزل عنها فضربها حتى إذا أذلقها قامت فركبها ، فلم تسر به كثيرا حتى ربضت ، ففعل بها مثل ذلك فقامت ، فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت ، فضربها حتى أذلقها ، أذن الله لها بالكلام فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب بي؟ ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ أتذهب بي إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم ينزع ، فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حسبان جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله به لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل . فقال له قومه : يا بلعم أتدري ماذا تصنع إنما تدعو لهم علينا؟! فقال : هذا ما لا أملكه ، هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنا رجل واحد منهم كفيتموهم ، ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين ، اسمها كستى بنت صور ، برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى ، فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك؟ قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها ، قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، ثم دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى ، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق وقوة في البطش ، وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ، ثم دخل عليهما القبة ، وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار ، وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ، ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحي ، لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحيته ، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ، لأنه كان بكر العيزار وفي بلعم أنزل الله تعالى : " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " الآية .وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام : ادع الله على موسى ، فقال : إنه من أهل ديني لا أدعو عليه ، فنحت خشبة ليصلبه فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليه ، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها ، فقالت : لم تضربني؟ إني مأمورة وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك فقال : لتدعون عليه أو لأصلبنك ، فدعا على موسى بالاسم الأعظم : أن لا يدخل المدينة ، فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال : بدعاء بلعام . قال : فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه ، فدعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان ، فنزع الله عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ، فذلك قوله : " فانسلخ منها " .وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعيد بن المسيب ، وزيد بن أسلم : نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكانت قصته : أنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - حسده وكفر به ، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة ، وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر ، فسأل عنهم فقيل : قتلهم محمد ، فقال : لو كان نبيا ما قتل أقرباءه ، فلما مات أمية أتت أخته فارعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وفاة أخيها فقالت : بينما هو راقد أتاه آتيان فكشفا سقف البيت ، فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : وعى؟ قال أزكى؟ قال : أبى ، قالت : فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي ، فصرف عني فغشي عليه ، فلما أفاق قال :كل عيش وإن تطاول دهرا صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا ليفي قلال الجبال أرعى الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيمشاب فيه الصغير يوما ثقيلاثم قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنشديني من شعر أخيك ، فأنشدته بعض قصائده ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آمن شعره وكفر قلبه " ، فأنزل الله - عز وجل - ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) الآية .وفي رواية عن ابن عباس : أنها نزلت في البسوس ، رجل من بني إسرائيل وكان قد أعطي له ثلاث دعوات مستجابات ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها دعوة ، فقال لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا لها فجعلت أجمل النساء في بني إسرائيل ، فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة ، فذهبت فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس لنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة نباحة ، والناس يعيروننا بها ، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات كلها . والقولان الأولان أظهر .وقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم .وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله - عز وجل - لمن عرض عليه الهدى فأبى أن يقبله ، فذلك قوله واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " . قال ابن عباس والسدي : اسم الله الأعظم . قال ابن زيد : كان لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه . وقال ابن عباس في رواية أخرى : أوتي كتابا من كتب الله فانسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ ، أي : خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها . ( فأتبعه الشيطان ) أي : لحقه وأدركه ، ( فكان من الغاوين )

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة . واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات . فقال ابن مسعود وابن عباس : هو بلعام بن باعوراء ، ويقال ناعم ، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام ، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش . وهو المعني بقوله واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ولم يقل آية ، وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه . ثم صار بحيث إنه كان أول من صنف كتابا في أن " ليس للعالم صانع " . قال مالك بن دينار : بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان ; فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى ; ففيه نزلت هذه الآيات . روى المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : كان بلعام قد أوتي النبوة ، وكان مجاب الدعوة ، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين ، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه . فقيل له في ذلك ; فقال : لا أقدر على أكثر مما تسمعون ; واندلع لسانه على صدره . فقال : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة ، وسأمكر لكم ، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى ، فإن وقعوا فيه هلكوا ; ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى ، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا . وقد ذكر هذا الخبر بكماله الثعلبي وغيره .وروي أن بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين ، فاستجيب له وبقي في التيه . فقال موسى : يا رب ، بأي ذنب بقينا في التيه . فقال : بدعاء بلعام . قال : فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه . فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم ; فسلخه الله ما كان عليه ، وقال أبو حامد في آخر كتاب منهاج العارفين له : وسمعت بعض العارفين يقول إن بعض الأنبياء سأل الله تعالى عن أمر بلعام وطرده بعد تلك الآيات والكرامات ، فقال الله تعالى : لم يشكرني يوما من الأيام على ما أعطيته ، ولو شكرني على ذلك مرة لما سلبته . وقال عكرمة : كان بلعام نبيا وأوتي كتابا . وقال مجاهد : إنه أوتي النبوة ; فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه . قال الماوردي : وهذا غير صحيح ; لأن الله تعالى لا يصطفي لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم : نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت ، وتمنى أن يكون هو ذلك الرسول ، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به . وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آمن شعره وكفر قلبه " .وقال سعيد بن المسيب : نزلت في أبي عامر بن صيفي ، وكان يلبس المسوح في الجاهلية ; فكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم . وذلك أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فقال : يا محمد ، ما هذا الذي جئت به ؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم . قال : فإني عليها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها . فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم أمات الله الكاذب منا كذلك - وإنما قال هذا يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة - فخرج أبو عامر إلى الشأم ومر إلى قيصر وكتب إلى المنافقين : استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمدا من المدينة ; فمات بالشام وحيدا . وفيه نزل : وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وسيأتي في " براءة " . وقال ابن عباس في رواية : نزلت في رجل كان له ثلاث دعوات يستجاب له فيها ، وكانت له امرأة يقال لها " البسوس " فكان له منها ولد ; فقالت : اجعل لي منها دعوة واحدة . فقال : لك واحدة ، فما تأمرين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل . فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه ; فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة . فذهب فيها دعوتان ; فجاء بنوها وقالوا : لا صبر لنا عن هذا ، وقد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها كما كانت ; فدعا فعادت إلى ما كانت ، وذهبت الدعوات فيها .والقول الأول أشهر ، وعليه الأكثر . قال عبادة بن الصامت : نزلت في قريش ، آتاهم الله آياته التي أنزلها الله - تعالى - على محمد صلى الله عليه وسلم فانسلخوا منها ، ولم يقبلوها . قال ابن عباس : كان بلعام من مدينة الجبارين . وقيل : كان من اليمن .فانسلخ منها أي من معرفة الله تعالى ، أي نزع منه العلم الذي كان يعلمه . وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم . فهذا مثل علم بلعام وأشباهه ، نعوذ بالله منه ; ونسأله التوفيق والممات على التحقيق .والانسلاخ : الخروج ; يقال : انسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه . وقيل : هذا من المقلوب ، أي انسلخت الآيات منه . فأتبعه الشيطان أي لحق به ; يقال : أتبعت القوم أي لحقتهم . وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به .
ex