سورة الأنفال : الآية 67

تفسير الآية 67 سورة الأنفال

مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلْءَاخِرَةَ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

لا ينبغي لنبي أن يكون له أسرى مِن أعدائه حتى يبالغ في القتل؛ لإدخال الرعب في قلوبهم ويوطد دعائم الدين، تريدون -يا معشر المسلمين- بأخذكم الفداء من أسرى "بدر" متاع الدنيا، والله يريد إظهار دينه الذي به تدرك الآخرة. والله عزيز لا يُقْهر، حكيم في شرعه.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر «ما كان لنبي أن تكون» بالتاء والياء «له أسرى حتى يثخن في الأرض» يبالغ في قتل الكفار «تريدون» أيها المؤمنون «عَرَض الدنيا» حطامها بأخذ الفداء «والله يريد» لكم «الآخرة» أي ثوابها بقتلهم «والله عزيز حكيم» وهذا منسوخ بقوله (فإما منّا بعد وإما فداءً).

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

هذه معاتبة من اللّه لرسوله وللمؤمنين يوم ‏‏بدر‏‏ إذ أسروا المشركين وأبقوهم لأجل الفداء،‏.‏ وكان رأي‏:‏ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في هذه الحال، قتلهم واستئصالهم‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىَ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ‏‏ أي‏:‏ ما ينبغي ولا يليق به إذا قاتل الكفار الذين يريدون أن يطفئوا نور اللّه ويسعوا لإخماد دينه، وأن لا يبقى على وجه الأرض من يعبد اللّه، أن يتسرع إلى أسرهم وإبقائهم لأجل الفداء الذي يحصل منهم، وهو عرض قليل بالنسبة إلى المصلحة المقتضية لإبادتهم وإبطال شرهم‏.‏ فما دام لهم شر وصولة، فالأوفق أن لا يؤسروا‏.‏ فإذا أثخنوا، وبطل شرهم، واضمحل أمرهم، فحينئذ لا بأس بأخذ الأسرى منهم وإبقائهم‏.‏ يقول تعالى‏:‏ ‏‏تُرِيدُونَ‏‏ بأخذكم الفداء وإبقائهم ‏‏عَرَضَ الدُّنْيَا‏‏ أي‏:‏ لا لمصلحة تعود إلى دينكم‏.‏ ‏‏وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ‏‏ بإعزاز دينه، ونصر أوليائه، وجعل كلمتهم عالية فوق غيرهم، فيأمركم بما يوصل إلى ذلك‏.‏ ‏‏وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏‏ أي‏:‏ كامل العزة، ولو شاء أن ينتصر من الكفار من دون قتال لفعل، لكنه حكيم، يبتلي بعضكم ببعض‏.‏

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن حميد ، عن أنس رضي الله عنه قال : استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال : إن الله قد أمكنكم منهم ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أيها الناس ، إن الله قد أمكنكم منهم ، وإنما هم إخوانكم بالأمس . فقام عمر فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال للناس مثل ذلك ، فقام أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله ، نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء . قال : فذهب عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب: أنه لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني.فقتل المسلمون من المشركين يومئذ سبعين وأسروا سبعين.قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر:ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار فعسى أن يهديهم الله إلى الإسلام.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، - حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين: فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت:فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله. أخبرنى من أى شيء تبكى أنت وصاحبك. فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكى على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة؟؟؟ لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم وأنزل الله- عز وجل-: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... إلخ الآيات.وروى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تقولون في هؤلاء الأسارى» ؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم.وقال عمر: يا رسول الله! كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم.وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت بواد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم نارا ثم ألقهم فيه.قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد شيئا. ثم قال فدخل فقال ناس: يأخذ بقول أبى بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة.ثم خرج عليهم رسول الله فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وكمثل عيسى إذ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، وكمثل موسى إذ قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ .ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق» .قال ابن مسعود: فقلت يا رسول، إلا سهيل بن بيضاء، فإنه يذكر الإسلام، فسكت رسول الله ثم قال: «إلا سهيل بن بيضاء» . وأنزل الله- عز وجل- ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ... إلى آخر الآية.وقال ابن إسحاق- وهو يحكى أخبار غزوة بدر-: فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا السيف، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله، يخافون عليه الكرة. ورأى رسول الله- فيما ذكر لي- في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم» ؟ فقال: أجل والله يا رسول الله: كانت هذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال.قوله: أَسْرى: جمع أسير كقتلى جمع قتيل. وهو مأخوذ من الأسر بمعنى الشد بالإسار أى: القيد الذي يقيد به حتى لا يهرب، ثم صار لفظ الأسير يطلق على كل من يؤخذ من فئته في الحرب ولو لم يشد بالإسار.وقوله يُثْخِنَ من الثخانة وهي في الأصل الغلظ والصلابة. يقال: ثخن الشيء يثخن ثخونة وثخانة وثخنا، أى: غلظ وصلب فهو ثخين، ثم استعمل في الكناية والمبالغة في قتل العدو فقيل: أثخن فلان في عدوه. أى: بالغ في قتله وإنزال الجراحة الشديدة به، لأنه بذلك يمنعه من الحركة فيصير كالثخين الذي لا يسيل ولا يتحرك.والمراد بالنبي في قوله ما كانَ لِنَبِيٍّ: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإنما جيء باللفظ منكرا تلطفا به صلى الله عليه وسلم حتى لا يواجه بالعتاب.والمعنى: ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى من أعدائه الذين يريدون به وبدعوته شرا حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أى: حتى يبالغ في قتلهم، وإنزاله الضربات الشديدة عليهم إذلالا للكفر وإعزازا لدين الله.وقوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ استئناف مسوق للعتاب.والعرض ما لا ثبات له ولا دوام من الأشياء، فكأنها تعرض ثم تزول، والمراد بعرض الدنيا هنا: الفداء الذي أخذوه من أسرى غزوة بدر حتى يطلقوا سراحهم.تريدون- أيها المؤمنون- بأخذكم الفداء من أعدائكم الأسرى عرض الدنيا ومتاعها الزائل، وحطامها الذي لا ثبات له، والله- تعالى- يريد لكم ثواب الآخرة.فالكلام في قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والإرادة هنا بمعنى الرضا أى: والله- تعالى- يرضى لكم العمل الذي يجعلكم تظفرون بثوابه في الآخرة، وهو تفضيل إذلال الشرك على أخذ الفداء من أهله.وقوله: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أى: والله- تعالى- عَزِيزٌ لا يغالب بل هو الغالب على أمره حَكِيمٌ في كل ما يأمر به أو ينهى عنه.فالآية الكريمة تعتب على المؤمنين، لأنهم آثروا الفداء على القتل والإثخان في الأرض، وذلك لأن غزوة بدر كانت أول معركة حاسمة بين الشرك والإيمان، وكان المسلمون فيها قلة والمشركون كثرة، فلو أن المسلمين آثروا المبالغة في إذلال أعدائهم عن طريق القتل لكان ذلك أدعى لكسر شوكة الشرك وأهله، وأظهر في إذلال قريش وحلفائها، وأصرح في بيان أن العمل على إعلاء كلمة الله كان عند المؤمنين فوق متع الدنيا وأعراضها، وأنهم لا يوادون من حارب الله ورسوله مهما بلغت درجة قرابته، وهذا ما عبر عنه عمر- رضى الله عنه- بقوله: «وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين» .والخلاصة أن غزوة بدر- بظروفها وملابساتها التي سبق أن أشرنا إليها- كان الأولى بالمسلمين فيها أن يبالغوا في قتل أعدائهم لا أن يقبلوا منهم فداء حتى يذلوهم ويعجزوهم عن معاودة الكرة.ورضى الله- تعالى- عن «سعد بن معاذ» فقد ظهرت الكراهية على وجهه بسبب أخذ الفداء من الأسرى، وقال- كما سبق أن بينا-: «.. كانت غزوة بدر- أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلىّ من استبقاء الرجال» .قال الفخر الرازي: قال ابن عباس: هذا الحكم إنما كان يوم بدر، لأن المسلمين كانوا قليلين، فلما كثروا وقوى سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها.ثم قال الرازي: وأقول: إن هذا الكلام يوهم أن قوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها: وليس الأمر كذلك، لأن الآيتين متوافقتان، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء».

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

وقوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) قرأ أبو جعفر وأهل البصرة : " تكون " بالتاء والباقون بالياء ، وقرأ أبو جعفر : " أسارى " ، والآخرون . " أسرى " .وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما تقولون في هؤلاء " ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم واستأن بهم ، لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم ، مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، ومكني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارا . فقال له العباس : قطعت رحمك . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة ، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : " فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " " إبراهيم - 36 " ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال : " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " " المائدة - 118 " ، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال : " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " " نوح - 26 " ، ومثل موسى قال : " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم " " يونس - 88 " ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق " ، قال عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إلا سهيل بن بيضاء " . قال ابن عباس : قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، لشجرة قريبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل الله تعالى : " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " إلى قوله : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " " الأنفال 67 - 69 " فأحل الله الغنيمة لهم . بقوله : " له أسرى " جمع أسير مثل قتلى وقتيل .قوله : ( حتى يثخن في الأرض ) أي : يبالغ في قتال المشركين وأسرهم ، ( تريدون ) أيها المؤمنون ( عرض الدنيا ) بأخذكم الفداء ، ( والله يريد الآخرة ) يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصر دين الله - عز وجل - ، " والله عزيز حكيم " .وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية ، والأوقية أربعون درهما .قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى " فإما منا بعد وإما فداء " ، " محمد - 4 " فجعل الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم ، وإن شاءوا أعتقوهم .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم فيه خمس مسائل :الأولى : قوله تعالى : أسرى جمع أسير ، مثل قتيل وقتلى وجريح وجرحى . ويقال في جمع أسير أيضا : أسارى " بضم الهمزة " وأسارى " بفتحها " وليست بالعالية . وكانوا يشدون الأسير بالقد وهو الإسار ، فسمي كل أخيذ وإن لم يؤسر أسيرا . قال الأعشى :وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا وقد مضى هذا في سورة " البقرة " . وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون ربطا . وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب .الثانية : هذه الآية نزلت يوم بدر ، عتابا من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم . والمعنى : ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان . ولهم هذا الإخبار بقوله تريدون عرض الدنيا . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ، ولا أراد قط عرض الدنيا ، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب ، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية . هذا قول أكثر المفسرين ، وهو الذي لا يصح غيره . وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم ينه عنه حين رآه من العريش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة ، ولكنه عليه السلام شغله بغت الأمر ونزول النصر فترك النهي عن الاستبقاء ، ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات . والله أعلم . روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب ، وقد تقدم أوله في " آل عمران " وهذا تمامه . قال أبو زميل : قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا بن الخطاب ؟ قلت : لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة كانت من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فأحل الله الغنيمة لهم وروى يزيد بن هارون قال : أخبرنا يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم . وقال عمر : كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ، قدمهم فاضرب أعناقهم . وقال عبد الله بن رواحة : انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم . فقال العباس وهو يسمع : قطعت رحمك . قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا . فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه . وقال أناس : يأخذ بقول عمر . وقال أناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة . مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا . ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق . فقال عبد الله : إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فما رأيتني أخوف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم . فأنزل الله عز وجل : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى آخر الآيتين . في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر . وروى أبو داود عن عمر قال : لما كان يوم بدر وأخذ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - الفداء ، أنزل الله عز وجل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله : لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم ثم أحل الغنائم . وذكر القشيري أن سعد بن معاذ قال : يا رسول الله ، إنه أول وقعة لنا مع المشركين فكان الإثخان أحب إلي . والإثخان : كثرة القتل ، عن مجاهد وغيره . أي يبالغ في قتل المشركين . تقول العرب : أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ . وقال بعضهم : حتى يقهر ويقتل . وأنشد المفضل :تصلي الضحى ما دهرها بتعبدوقد أثخنت فرعون في كفره كفرا وقيل : حتى يثخن يتمكن . وقيل : الإثخان القوة والشدة . فأعلم الله سبحانه وتعالى أن قتل الأسرى الذين فودوا ببدر كان أولى من فدائهم . وقال ابن عباس رضي الله عنه : كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل بعد هذا في الأسارى : فإما منا بعد وإما فداء على ما يأتي بيانه في سورة " القتال " إن شاء الله تعالى .وقد قيل : إنما عوتبوا لأن قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش وأشرافهم وساداتهم وأموالهم بالقتل والاسترقاق والتملك . وذلك كله عظيم الموقع فكان حقهم أن ينتظروا الوحي ولا يستعجلوا ، فلما استعجلوا ولم ينتظروا توجه عليهم ما توجه . والله أعلم .الثالثة : أسند الطبري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : إن شئتم أخذتم فداء الأسارى ويقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قتلوا وسلمتم . فقالوا : نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون . وذكر عبد بن حميد بسنده أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا . وقد مضى في " آل عمران " القول في هذا . وقال عبيدة السلماني : طلبوا الخيرتين كلتيهما ، فقتل منهم يوم أحد سبعون . وينشأ هنا إشكال وهي :الرابعة : وهو أن يقال : إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله لمسكم . فالجواب - أن التوبيخ وقع أولا لحرصهم على أخذ الفداء ، ثم وقع التخيير بعد ذلك . ومما يدل على ذلك أن المقداد قال حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط : أسيري يا رسول الله . وقال مصعب بن عمير الذي أسر أخاه : شد عليه يدك ، فإن له أما موسرة . إلى غير ذلك من قصصهم وحرصهم على أخذ الفداء . فلما تحصل الأسارى وسيقوا إلى المدينة وأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل في النضر وعقبة وغيرهما وجعل يرتئي في سائرهم نزل التخيير من الله عز وجل ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه حينئذ . فمر عمر على أول رأيه في القتل ، ورأى أبو بكر المصلحة في قوة المسلمين بمال الفداء . ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر . وكلا الرأيين اجتهاد بعد تخيير . فلم ينزل بعد على هذا شيء من تعنيت . والله أعلم . الخامسة : قال ابن وهب : قال مالك كان ببدر أسارى مشركون فأنزل الله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . وكانوا يومئذ مشركين وفادوا ورجعوا ، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا . وكان عدة من قتل منهم أربعة وأربعين رجلا ، ومثلهم أسروا . وكان الشهداء قليلا . وقال أبو عمرو بن العلاء : إن القتلى كانوا سبعين ، والأسرى كذلك . وكذلك قال ابن عباس وابن المسيب وغيرهم . وهو الصحيح كما في صحيح مسلم ، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين . وذكر البيهقي قالوا : فجيء بالأسارى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تسعة وأربعون رجلا الذين أحصوا ، وهم سبعون في الأصل ، مجتمع عليه لا شك فيه . قال ابن العربي : إنما قال مالك " وكانوا مشركين " لأن المفسرين رووا أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني مسلم . وفي رواية أن الأسارى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بك . وهذا كله ضعفه مالك ، واحتج على إبطاله بما ذكر من رجوعهم وزيادة عليه أنهم غزوه في أحد . قال أبو عمر بن عبد البر : اختلفوا في وقت إسلام العباس ، فقيل : أسلم قبل يوم بدر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : من لقي العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرها . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : إن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ومن لقي العباس فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها وذكر الحديث . وذكر أنه أسلم حين أسر يوم بدر . وذكر أنه أسلم عام خيبر ، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين ، وكان يحب أن يهاجر فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا .
ex