سورة الأنفال : الآية 25

تفسير الآية 25 سورة الأنفال

وَٱتَّقُوا۟ فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمْ خَآصَّةً ۖ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

واحذروا -أيها المؤمنون- اختبارًا ومحنة يُعَمُّ بها المسيء وغيره لا يُخَص بها أهل المعاصي ولا مَن باشر الذنب، بل تصيب الصالحين معهم إذا قدروا على إنكار الظلم ولم ينكروه، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره ونهيه.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«واتقوا فتنة» إن أصابتكم «لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة» بل تعمهم وغيرهم واتقاؤها بإنكار موجبها من المنكر «واعلموا أن الله شديد العقاب» لمن خالفه.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

‏‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏‏ بل تصيب فاعل الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وتقوى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن‏.‏ ‏‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏‏ من تعرض لمساخطه، وجانب رضاه‏.‏

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

يحذر تعالى عباده المؤمنين ) فتنة ) أي : اختبارا ومحنة ، يعم بها المسيء وغيره ، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب ، بل يعمهما ، حيث لم تدفع وترفع . كما قال الإمام أحمد :حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا شداد بن سعيد ، حدثنا غيلان بن جرير ، عن مطرف قال : قلنا للزبير : يا أبا عبد الله ، ما جاء بكم ؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ، ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال الزبير - رضي الله عنه - : إنا قرأنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت .وقد رواه البزار من حديث مطرف ، عن الزبير ، وقال : لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث .وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن الزبير نحو هذا .وروى ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : قال الزبير : لقد خوفنا بها ، يعني قوله [ تعالى ] ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة .وكذا رواه حميد ، عن الحسن ، عن الزبير ، رضي الله عنه .وقال داود بن أبي هند ، عن الحسن في هذه الآية قال : نزلت في علي ، وعثمان وطلحة والزبير ، رضي الله عنهم .وقال سفيان الثوري عن الصلت بن دينار ، عن عقبة بن صهبان ، سمعت الزبير يقول : لقد قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإن نحن المعنيون بها : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب )وقد روي من غير وجه ، عن الزبير بن العوام .وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل ، فاقتتلوا .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) يعني : أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة .وقال في رواية له ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم إليهم فيعمهم الله بالعذاب .وهذا تفسير حسن جدا ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) هي أيضا لكم ، وكذا قال الضحاك ، ويزيد بن أبي حبيب ، وغير واحد .وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، إن الله تعالى يقول : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) [ التغابن : 15 ] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن . رواه ابن جرير .والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم - وإن كان الخطاب معهم - هو الصحيح ، ويدل على ذلك الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن ، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى ، كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال :حدثنا أحمد بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنبأنا سيف بن أبي سليمان ، سمعت عدي بن عدي الكندي يقول : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي - يعني عدي بن عميرة - يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن الله - عز وجل - لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة .فيه رجل مبهم ، ولم يخرجوه في الكتب الستة ، ولا واحد منهم ، والله أعلم .حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن جعفر - أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل ، عن حذيفة بن اليمان ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم .ورواه عن أبي سعيد ، عن إسماعيل بن جعفر ، وقال : أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم .وقال أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال حدثنا رزين بن حبيب الجهني ، حدثني أبو الرقاد قال : خرجت مع مولاي ، فدفعت إلى حذيفة وهو يقول : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير منافقا ، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ؛ لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتحاضن على الخير ، أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب ، أو ليؤمرن عليكم شراركم ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم .حديث آخر : قال الإمام أحمد أيضا : حدثني يحيى بن سعيد ، عن زكريا ، حدثنا عامر ، قال : سمعت النعمان بن بشير - رضي الله عنه - يخطب يقول - وأومأ بإصبعيه إلى أذنيه - يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها - أو المدهن فيها - كمثل قوم ركبوا سفينة ، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها ، وأصاب بعضهم أعلاها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم ، فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقا ، فاستقينا منه ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا .انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، فرواه في " الشركة " و " الشهادات " ، والترمذي في الفتن من غير وجه ، عن سليمان بن مهران الأعمش ، عن عامر بن شراحيل الشعبي ، به .حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن ليث ، عن علقمة بن مرثد ، عن المعرور بن سويد ، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا ظهرت المعاصي في أمتي ، عمهم الله بعذاب من عنده . فقلت : يا رسول الله ، أما فيهم أناس صالحون ؟ قال : بلى ، قالت : فكيف يصنع أولئك ؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان .حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج بن محمد ، أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من قوم يعملون بالمعاصي ، وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيرون ، إلا عمهم الله بعقاب - أو : أصابهم العقاب .ورواه أبو داود ، عن مسدد ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، به .وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث ، عن عبيد الله بن جرير ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، هم أعز وأكثر ممن يعمله ، لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب .ثم رواه أيضا عن وكيع ، عن إسرائيل - وعن عبد الرزاق ، عن معمر - وعن أسود ، عن شريك ويونس - كلهم عن أبي إسحاق السبيعي ، به .وأخرجه ابن ماجه ، عن علي بن محمد ، عن وكيع ، به .[ حديث آخر ] وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا جامع بن أبي راشد ، عن منذر ، عن حسن بن محمد ، عن امرأته ، عن عائشة تبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا ظهر السوء في الأرض ، أنزل الله بأهل الأرض بأسه . قالت : وفيهم أهل طاعة الله ؟ قال : نعم ، ثم يصيرون إلى رحمة الله .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ثم يؤكد- سبحانه- بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخي في تغيير المنكر فيقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.والفتنة: من الفتن. وأصله- كما يقول الراغب-: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار.كما في قوله- تعالى- ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أى: عذابكم. وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله- تعالى-: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا. وتارة في الاختيار نحو قوله- تعالى- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً .والمراد بالفتنة هنا العذاب الدنيوي، كالأمراض، والقحط، واضطراب الأحوال، وتسلط الظلمة، وعدم الأمان.. وغير ذلك من المحن والمصائب والآلام التي تنزل بالناس بسبب غشيانهم الذنوب، وإقرارهم للمنكرات، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.والخطاب لجميع المؤمنين في كل زمان ومكان.فالمعنى: داوموا أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند نزوله الأخيار والفجار والمحسنين والمسيئين.وقوله، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ المراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله- تعالى-.أى: واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره، وانتهك حرماته.قال صاحب الكشاف: وقوله لا تُصِيبَنَّ لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر، أو صفة لفتنة.فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ... وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنبا أو عقابا، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله الجميع وليس من ظلم منكم خاصة.فإن قلت: كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر؟قلت: لأن فيه معنى النهى- ومتى كان كذلك جاز إدخال النون المؤكدة- كما إذا قلت:انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك. ومنه قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ .وقوله خَاصَّةً منصوب على الحال من الفاعل المستكن في قوله لا تُصِيبَنَّ.ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف. والتقدير: إصابة خاصة.هذا، وقد دلت الآية الكريمة على وجوب الإقلاع عن المعاصي، ووجوب محاربة مرتكبيها، فإن الأمة التي تشيع فيها المعاصي والمظالم والمنكرات.. ثم لا تجد من يحاربها ويعمل على إزالتها، تستحق العقوبة جزاء سكوتها واستخذائها وجبنها.وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في حق بعض الصحابة الذين اشتركوا في واقعة الجمل فيما بعد.ولكن هذا القول غير صحيح لأن الآية الكريمة تخاطب المؤمنين جميعا في كل زمان ومكان، وتأمرهم بالبعد عن المعاصي والمنكرات التي تفضى بهم إلى العذاب الدنيوي قبل الأخروى. وليست خاصة بفريق دون فريق.لذا قال ابن كثير: والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم هو الصحيح، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن.ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عدى بن عميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله- تعالى- لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» .وروى الإمام أحمد أيضا عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب» .وقال الإمام القرطبي: قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له:يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» .وفي صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا- أى اقترعوا- على سفينة فأصاب بعضهم أغلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» .ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة.قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر وعدم التغيير. وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها.روى ابن وهب عن مالك قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها.واحتج بصنيع أبى الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها.فإن قيل: فقد قال الله- تعالى- وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب؟فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله في حكمه الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة .وقال بعض العلماء: وذكر القسطلاني «أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده. فكل من لم يكن بهذه الحالة، فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار .

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

( واتقوا فتنة ) اختبارا وبلاء ( لا تصيبن ) قوله : " لا تصيبن " ليس بجزاء محض ، ولو كان جزاء لم تدخل فيه النون ، لكنه نفي وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى : " يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده " ( النمل - 18 ) وتقديره واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم ، فهو كقول القائل : انزل عن الدابة لا تطرحنك ، فهذا جواب الأمر بلفظ النهي ، معناه إن تنزل لا تطرحك .قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعناه : اتقوا فتنة تصيب الظالم وغير الظالم .قال الحسن : نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير رضي الله عنهم . قال الزبير : لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها ، يعني ما كان يوم الجمل .وقال السدي ومقاتل والضحاك وقتادة : هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابتهم الفتنة يوم الجمل .وقال ابن عباس : أمر الله - عز وجل - المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم .أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر الحارثي ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن سيف بن أبي سليمان ، قال : سمعت عدي بن عدي الكندي يقول : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة " . وقال ابن زيد : أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به " .قوله ( لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) يعني : العذاب ، ( واعلموا أن الله شديد العقاب )

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب فيه مسألتان :الأولى : قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب . وكذلك تأول فيها الزبير بن العوام فإنه قال يوم الجمل ، وكان سنة ست وثلاثين : ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت . وكذلك تأول الحسن البصري والسدي وغيرهما . قال السدي : نزلت الآية في أهل بدر خاصة ; فأصابتهم الفتنة يوم الجمل فاقتتلوا . وقال ابن عباس رضي الله عنه : نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر فيما بينهم فيعمهم الله بالعذاب . وعن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بين ناس من أصحابي فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستن بهم فيها ناس بعدهم يدخلهم الله بها النار .قلت : وهذه التأويلات هي التي تعضدها الأحاديث الصحيحة ; ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث . وفي صحيح الترمذي : إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده وقد تقدمت هذه الأحاديث . وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا . ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة . وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . قال علماؤنا : فالفتنة إذا عمت هلك الكل . وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير ، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها . وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم ; كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا لا نساكنكم . وبهذا قال السلف رضي الله عنهم . روى ابن وهب عن مالك أنه قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها . واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا ، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها . خرجه الصحيح . وروى البخاري عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم . فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين . وروى مسلم عن عبد الله بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت : عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ، فقلت : يا رسول الله ، صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله ؟ فقال : العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم . فقلنا : يا رسول الله ، إن الطريق قد يجمع الناس . قال : نعم ، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله تعالى على نياتهم .فإن قيل : فقد قال الله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى . كل نفس بما كسبت رهينة . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد ، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب . فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره ; فإذا سكت عليه فكلهم عاص : هذا بفعله وهذا برضاه . وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل ; فانتظم في العقوبة ; قاله ابن العربي . وهو مضمون الأحاديث كما ذكرنا . ومقصود الآية : واتقوا فتنة تتعدى الظالم ، فتصيب الصالح والطالح .الثانية : واختلف النحاة في دخول النون في لا تصيبن قال الفراء : هو بمنزلة قولك : انزل عن الدابة لا تطرحنك ; فهو جواب الأمر بلفظ النهي ; أي إن تنزل عنها لا تطرحنك . ومثله قوله تعالى : ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم . أي إن تدخلوا لا يحطمنكم ; فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء . وقيل : لأنه خرج مخرج القسم ، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم . وقال أبو العباس المبرد : إنه نهي بعد أمر ، والمعنى النهي للظالمين ; أي لا تقربن الظلم . وحكى سيبويه : لا أرينك هاهنا ; أي لا تكن هاهنا ; فإنه من كان هاهنا رأيته . وقال الجرجاني : المعنى اتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا خاصة . فقوله لا تصيبن نهي في موضع وصف النكرة ; وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا . وقرأ علي وزيد بن ثابت وأبي وابن مسعود ( لتصيبن ) بلا ألف . قال المهدوي : من قرأ ( لتصيبن ) جاز أن يكون مقصورا من لا تصيبن حذفت الألف كما حذفت من " ما " وهي أخت " لا " في نحو أم والله لأفعلن ، وشبهه . ويجوز أن تكون مخالفة لقراءة الجماعة ; فيكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة .
ex