سورة الأحزاب : الآية 6

تفسير الآية 6 سورة الأحزاب

ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَأَزْوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمْ ۗ وَأُو۟لُوا۟ ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِى كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفْعَلُوٓا۟ إِلَىٰٓ أَوْلِيَآئِكُم مَّعْرُوفًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْكِتَٰبِ مَسْطُورًا

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

النبي محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين، وأقرب لهم من أنفسهم في أمور الدين والدنيا، وحرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على أُمَّته كحرمة أمهاتهم، فلا يجوز نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من بعده. وذوو القرابة من المسلمين بعضهم أحق بميراث بعض في حكم الله وشرعه من الإرث بالإيمان والهجرة (وكان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة والإيمان دون الرحم، ثم نُسخ ذلك بآية المواريث) إلا أن تفعلوا -أيها المسلمون- إلى غير الورثة معروفًا بالنصر والبر والصلة والإحسان والوصية، كان هذا الحكم المذكور مقدَّرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ، فيجب عليكم العمل به. وفي الآية وجوب كون النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ إلى العبد من نفسه، ووجوب كمال الانقياد له، وفيها وجوب احترام أمهات المؤمنين، زوجاته صلى الله عليه وسلم، وأن من سبَّهن فقد باء بالخسران.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم» فيما دعاهم إليه ودعتهم أنفسهم إلى خلافه «وأزواجه أمهاتهم» في حرمة نكاحهن عليهم «وأولوا الأرحام» ذوو القرابات «بعضهم أولى ببعض» في الإرث «في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين» أي من الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام فنسخ «إلا» لكن «أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا» بوصية فجائز «كان ذلك» أي نسخ الإرث بالإيمان والهجرة بإرث ذوي الأرحام «في الكتاب مسطورا» وأريد بالكتاب في الموضعين اللوح المحفوظ.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

يخبر تعالى المؤمنين، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أقرب ما للإنسان، وأولى ما له نفسه، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه عليه الصلاة والسلام، بذل لهم من النصح، والشفقة، والرأفة، ما كان به أرحم الخلق، وأرأفهم، فرسول اللّه، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم، من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على يديه وبسببه.فلذلك، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس، مع مراد الرسول، أن يقدم مراد الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول، بقول أحد، كائنًا من كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه.وهو صلى اللّه عليه وسلم، أب للمؤمنين، كما في قراءة بعض الصحابة، يربيهم كما يربي الوالد أولاده.فترتب على هذه الأبوة، أن كان نساؤه أمهاتهم، أي: في الحرمة والاحترام، والإكرام، لا في الخلوة والمحرمية، وكأن هذا مقدمة، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة، الذي كان قبل يُدْعَى: "زيد بن محمد" حتى أنزل اللّه مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ فقطع نسبه، وانتسابه منه، فأخبر في هذه الآية، أن المؤمنين كلهم، أولاد للرسول، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه، فلا يحزن ولا يأسف.وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين، أنهن لا يحللن لأحد من بعده، كما الله صرح بذلك: "وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا" وَأُولُو الْأَرْحَامِ أي: الأقارب، قربوا أو بعدوا بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [أي]: في حكمه، فيرث بعضهم بعضًا، ويبر بعضهم بعضًا، فهم أولى من الحلف والنصرة.والأدعياء الذين كانوا من قبل، يرثون بهذه الأسباب، دون ذوي الأرحام، فقطع تعالى، التوارث بذلك، وجعله للأقارب، لطفًا منه وحكمة، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة، لحصل من الفساد والشر، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث، شيء كثير. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ أي: سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام، في جميع الولايات، كولاية النكاح، والمال، وغير ذلك. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا أي: ليس لهم حق مفروض، وإنما هو بإرادتكم، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا، وتعطوهم معروفًا منكم، كَانَ ذلك الحكم المذكور فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا أي: قد سطر، وكتب، وقدره اللّه، فلا بد من نفوذه.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

قد علم الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحه لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم ، كما قال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) [ النساء : 65 ] . وفي الصحيح : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " . وفي الصحيح أيضا أن عمر ، رضي الله عنه ، قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال : " لا يا عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك " . فقال : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال : " الآن يا عمر " .ولهذا قال تعالى في هذه الآية : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) .وقال البخاري عندها : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا [ محمد بن ] فليح ، حدثنا أبي ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرؤوا إن شئتم : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . فإن ترك دينا أو ضياعا ، فليأتني فأنا مولاه " . تفرد به البخاري .ورواه أيضا في " الاستقراض " وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن فليح ، به مثله . ورواه الإمام أحمد ، من حديث أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري في قوله تعالى : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) عن أبي سلمة ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا ، فإلي . ومن ترك مالا فلورثته " . ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، به نحوه .وقوله : ( وأزواجه أمهاتهم ) أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام والتوقير والإعظام ، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي في المختصر ، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم . وهل يقال لمعاوية وأمثاله : خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء . ونص الشافعي على أنه يقال ذلك . وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ، فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليبا ؟ فيه قولان : صح عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : لا يقال ذلك . وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي ، رحمه الله .وقد روي عن أبي بن كعب ، وابن عباس أنهما قرآ : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " ، وروي نحو هذا عن معاوية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن : وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي . حكاه البغوي وغيره ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود :حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا ابن المبارك ، عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ولا يستطب بيمينه " ، وكان يأمر بثلاثة أحجار ، وينهى عن الروث والرمة .وأخرجه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن عجلان .والوجه الثاني : أنه لا يقال ذلك ، واحتجوا بقوله : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) : وقوله : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) أي : في حكم الله ( من المؤمنين والمهاجرين ) أي : القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار . وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم ، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه ، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال سعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف والخلف .وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثا عن الزبير بن العوام ، رضي الله عنه ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي - من ساكني بغداد - عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله ، عز وجل ، فينا خاصة معشر قريش والأنصار : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة ، قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان ، فواخيناهم ووارثناهم . فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخى عمر فلانا ، وآخى عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا من بني زريق ، سعد الزرقي ، ويقول بعض الناس غيره . قال الزبير : وواخيت أنا كعب بن مالك ، فجئته فابتعلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى ، فوالله يا بني ، لو مات يومئذ عن الدنيا ، ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .وقوله : ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) أي : ذهب الميراث ، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية .وقوله : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) أي : هذا الحكم ، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول ، الذي لا يبدل ، ولا يغير . قاله مجاهد وغير واحد . وإن كان قد يقال : قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي ، وقضائه القدري الشرعي .

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

أى: النبي صلّى الله عليه وسلّم أحق بالمؤمنين بهم من أنفسهم وأولى في المحبة والطاعة، فإذا ما دعاهم إلى أمر، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه، وجب أن يؤثروا ما دعاهم إليه، على ما تدعوهم إليه أنفسهم، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يدعوهم إلا إلى ما ينفعهم، أما أنفسهم فقد تدعوهم إلى ما يضرهم.وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبى هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنما مثلي ومثل أمتى، كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه- أى في الشيء المستوقد- وأنا آخذ بحجزكم- أى: وأنا آخذ بما يمنعكم من السقوط كملابسكم ومعاقد الإزار- وأنتم تقحمون فيه» أى: وأنتم تحاولون الوقوع فيما يحرقكم-.قال القرطبي: قال العلماء: الحجزة: السراويل، والمعقد للإزار، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه، وهذا مثل لاجتهاد نبينا صلّى الله عليه وسلّم في نجاتنا، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التي بين أيدينا، فهو أولى بنا من أنفسنا .وقال الإمام ابن كثير. قد علم الله- تعالى- شفقة رسوله صلّى الله عليه وسلّم على أمته، ونصحه لهم: فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم.وفي الصحيح «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين» .وروى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة. اقرءوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه» .وروى الإمام أحمد عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى، ومن ترك مالا فلورثته .وقال الآلوسى: وإذا كان صلّى الله عليه وسلّم بهذه المثابة في حق المؤمنين، يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه- عليه الصلاة والسلام- عليهم أنفذ من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها.وسبب نزول الآية- على ما قيل- ما روى من أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج: فقال أناس منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت. ووجه دلالتها على السبب أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا كان أولى من أنفسهم، فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى .ثم بين- سبحانه- منزلة أزواجه صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة للمؤمنين فقال: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أى: وأزواجه صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة أمهاتكم- أيها المؤمنون- في الاحترام والإكرام، وفي حرمة الزواج بهن.قالوا: وأما ما عدا ذلك كالنظر إليهن، والخلوة بهن، وإرثهن. فهن كالأجنبيات.ثم بين- سبحانه- أن التوارث إنما يكون بين الأقارب فقال- تعالى- وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.والمراد بأولى الأرحام: الأقارب الذين تربط بينهم رابطة الرحم كالآباء والأبناء، والإخوة، والأخوات.وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ متعلق بقوله أَوْلى أو بمحذوف على أنه حال من الضمير في أَوْلى.والمراد بالمؤمنين والمهاجرين. من لا تربط بينهم وبين غيرهم رابطة قرابة.قال ابن كثير: وقد أورد ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام قال: أنزل الله- عز وجل- فينا خاصة معشر قريش والأنصار: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وذلك أنا معشر قريش، لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فواخيناهم ووارثناهم ... حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة، فرجعنا إلى مواريثنا.وشبيه بهذه الآية في وجوب أن يكون التوارث بحسب قرابة الدم، قوله- تعالى- في آخر آية من سورة الأنفال: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.والاستثناء في قوله- سبحانه-: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً رجح بعضهم أنه استثناء منقطع. وقوله أَنْ تَفْعَلُوا مبتدأ، وخبره محذوف.والمراد بالكتاب في قوله كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً القرآن الكريم، أو اللوح المحفوظ.والمعنى: وأولو الأرحام وهم الأقارب، بعضهم أولى ببعض في التوارث فيما بينهم، وفي تبادل المنافع بعضهم مع بعض، وهذه الأولوية والأحقية ثابتة في كتاب الله- تعالى- حيث بين لكم في آيات المواريث التي بسورة النساء، كيفية تقسيم التركة بين الأقارب، وهم بهذا البيان أولى في ميراث الميت من المؤمنين والمهاجرين الذين لا تربطهم بالميت صلة القرابة.هذا هو حكم الشرع فيما يتعلق بالتوارث، لكن إذا أردتم- أيها المؤمنون- أن تقدموا إلى غير أقاربكم من المؤمنين معروفا، كأن توصوا له ببعض المال فلا بأس، ولا حرج عليكم في ذلك.وهذا الحكم الذي بيناه لكم فيما يتعلق بالتوارث بين الأقارب، كان مسطورا ومكتوبا في اللوح المحفوظ، وفي آيات القرآن التي سبق نزولها، فاعملوا بما شرعناه لكم، واتركوا ما نهيناكم عنه.قال الشوكانى ما ملخصه: قوله: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا، من صدقة أو وصية، فإن ذلك جائز.وإما منقطع. والمعنى: لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به.والإشارة بقوله: كانَ ذلِكَ تعود إلى ما تقدم ذكره. أى: كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوى الأرحام من القرابات فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أى: في اللوح المحفوظ، أو في القرآن مكتوبا.وبذلك نرى الآية الكريمة قد وضحت ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم، وما يجب عليهم نحو أزواجه، وما يجب عليهم نحو أقاربهم فيما يتعلق بالتوارث.ثم ذكر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالعهد الذي أخذه عليه وعلى الأنبياء من قبله، فقال- تعالى-:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله - عز وجل - : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم . وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم من طاعتهم أنفسهم . وقال ابن زيد : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه . وقيل : هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه . وقيل : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا أبو عامر ، أخبرنا فليح ، عن هلال بن علي بن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة " ، اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته ، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " .قوله - عز وجل - : ( وأزواجه أمهاتهم ) وفي حرف أبي : ( وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم ) وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد ، لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ، قال الله تعالى : " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " ( الأحزاب - 53 ) ، ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لأخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم .قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وهي أخت أم المؤمنين ، ولم يقل هي خالة المؤمنين .واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ؟ قيل : كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعا .وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء ، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : قالت يا أمه! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم فبان بهذا معنى هذه الأمومة وهو تحريم نكاحهن .قوله - عز وجل - : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) يعني : في الميراث ، قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة . قال الكلبي : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الناس ، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت هذه الآية : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) في حكم الله ) ( من المؤمنين ) الذين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم ) ( والمهاجرين ) يعني ذوي القرابات ، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة .قوله : ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه .وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة .وقيل : أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة ، يعني : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أي : لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، أي : إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة .( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) أي : كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطورا مكتوبا . وقال القرظي : في التوراة .

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا .فيه تسع مسائل :الأولى : قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام ; منها : أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ; فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته أخرجه الصحيحان . وفيهما أيضا فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه . قال ابن العربي : فانقلبت الآن الحال بالذنوب ، فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه ، وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه ; فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيهه ; ولا عطر بعد عروس . قال ابن عطية : وقال بعض العلماء العارفين : هو أولى بهم من أنفسهم ; لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ، وهو يدعوهم إلى النجاة . قال ابن عطية : ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش .قلت : هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها ، والحديث الذي ذكر أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه . وعن جابر مثله ; وقال : وأنتم تفلتون من يدي . قال العلماء : الحجزة للسراويل ، والمعقد للإزار ; فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه . وهذا مثل لاجتهاد نبينا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا ، وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا ; فهو أولى بنا من أنفسنا ; ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدونا اللعين بنا صرنا أحقر من الفراش وأذل من الفراش ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! وقيل : أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى . وقيل أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم ; أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه .الثانية : قال بعض أهل العلم : يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ; فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال : فعلي قضاؤه . والضياع ( بفتح الضاد ) مصدر ضاع ، ثم جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم ، ومال لا قيم له . وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع ، وتجمع ضياعا بكسر الضاد .الثالثة : وأزواجه أمهاتهم شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين ; أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال ، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات . وقيل : لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات ، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني . وجاز تزويج بناتهن ، ولا يجعلن أخوات للناس . وسيأتي عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى .واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة ؟ على قولين : فروى الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها : يا أمه ; فقالت لها : لست لك بأم ، إنما أنا أم رجالكم . قال ابن العربي : وهو الصحيح .قلت : لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء ، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء ; تعظيما لحقهن على الرجال والنساء . يدل عليه صدر الآية : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة . ويدل على ذلك حديث أبي هريرة وجابر ; فيكون قوله : وأزواجه أمهاتهم عائدا إلى الجميع . ثم إن في مصحف أبي بن كعب ( وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) . وقرأ ابن عباس : ( من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم ) . وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح ، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص ، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم . والله أعلم .الرابعة : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين قيل : إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشا . وفيه قولان : أحدهما : أنه ناسخ للتوارث بالهجرة . حكى سعيد عن قتادة قال : كان نزل في سورة الأنفال والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فتوارث المسلمون بالهجرة ; فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئا حتى يهاجر ، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض . الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين ; روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ; فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخيت أنا كعب بن مالك ، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله ; فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا . وثبت عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك ، فارتث كعب يوم أحد فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته ; فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير ، فأنزل الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف ، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة . وقد مضى في ( الأنفال ) الكلام في توريث ذوي الأرحام . وقوله : في كتاب الله يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه . و من المؤمنين متعلق ب ( أولو ) لا بقوله [ تعالى ] : وأولو الأرحام بالإجماع ; لأن ذلك كان يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين ، ولا خلاف في عمومها ، وهذا حل إشكالها ; قاله ابن العربي . النحاس : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين يجوز أن يتعلق من المؤمنين ب ( أولو ) فيكون التقدير : وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين . ويجوز أن يكون المعنى أولى من المؤمنين . وقال المهدوي : وقيل إن معناه : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعين أمهات المؤمنين . والله تعالى أعلم .الخامسة : واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر ; على وجهين : أحدهما : هن محرم ، لا يحرم النظر إليهن . الثاني : أن النظر إليهن محرم ؛ لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن ، وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ; ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابنا لأختها من الرضاعة ، فيصير محرما يستبيح النظر . وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه : أحدها : ثبتت لهن هذه الحرمة تغليبا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني : لا يثبت لهن ذلك ، بل هن كسائر النساء ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن ، وقال : أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة . الثالث : من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحرم نكاحها وإن طلقها ; حفظا لحرمته وحراسة لخلوته . ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة ; وقد هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فقالت : لم هذا ! وما ضرب علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حجابا ولا سميت أم المؤمنين ؟ ! فكف عنها عمر رضي الله عنه .السادسة : قال قوم : لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا لقوله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم . ولكن يقال : مثل الأب للمؤمنين ; كما قال : إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم . . الحديث . خرجه أبو داود . والصحيح أنه يجوز أن يقال : إنه أب للمؤمنين ، أي في الحرمة ، وقوله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم أي في النسب . وسيأتي . وقرأ ابن عباس : ( من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه ) . وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال : حكمها يا غلام ؟ فقال : إنها في مصحف أبي ; فذهب إليه فسأله فقال له أبي : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق ؟ وأغلظ لعمر . وقد قيل في قول لوط عليه السلام هؤلاء بناتي : إنما أراد المؤمنات ; أي تزوجوهن . وقد تقدم .السابعة : قال قوم : لا يقال بناته أخوات المؤمنين ، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعي رضي الله عنه : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . وأطلق قوم هذا وقالوا : معاوية خال المؤمنين ; يعني في الحرمة لا في النسب .الثامنة : قوله تعالى : إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا يريد الإحسان في الحياة ، والوصية عند الموت ; أي أن ذلك جائز ; قاله قتادة والحسن وعطاء . وقال محمد بن الحنفية ، نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني ; أي يفعل هذا مع الولي والقريب وإن كان كافرا ; فالمشرك ولي في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية . واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيا ; فجوز بعض ومنع بعض . ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض ; منهم مالك رحمه الله تعالى . وذهب مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى : إلى أوليائكم من المؤمنين . ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم الولي أيضا حسن . وولاية النسب لا تدفع الكافر ، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .التاسعة : قوله تعالى : كان ذلك في الكتاب مسطورا ( الكتاب ) يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في ( كتاب الله ) . و ( مسطورا ) من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارا . وقال قتادة : أي مكتوبا عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلما . قال قتادة : وفي بعض القراءة كان ذلك عند الله مكتوبا . وقال القرظي : كان ذلك في التوراة .
ex