سورة الأحزاب : الآية 35

تفسير الآية 35 سورة الأحزاب

إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْقَٰنِتِينَ وَٱلْقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلْخَٰشِعِينَ وَٱلْخَٰشِعَٰتِ وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرًا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا

التفسير الميسر (نخبة من العلماء)

إن المنقادين لأوامر الله والمنقادات، والمصَدِّقين والمصدِّقات والمطيعين لله ورسوله والمطيعات، والصادقين في أقوالهم والصادقات، والصابرين عن الشهوات وعلى الطاعات وعلى المكاره والصابرات، والخائفين من الله والخائفات، والمتصدقين بالفرض والنَّفْل والمتصدقات، والصائمين في الفرض والنَّفْل والصائمات، والحافظين فروجهم عن الزنى ومقدماته، وعن كشف العورات والحافظات، والذاكرين الله كثيرًا بقلوبهم وألسنتهم والذاكرات، أعدَّ الله لهؤلاء مغفرة لذنوبهم وثوابًا عظيمًا، وهو الجنة.

تفسير الجلالين (جلال الدين المحلي و السيوطي)

«إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات» المطيعات «والصادقين والصادقات» في الإيمان «والصابرين والصابرات» على الطاعات «والخاشعين» المتواضعين «والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات» عن الحرام «والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة» للمعاصي «وأجرا عظيما» على الطاعات.

تفسير السعدي (عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي التميمي مفسر)

لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وعقابهن [لو قدر عدم الامتثال] وأنه ليس مثلهن أحد من النساء، ذكر بقية النساء غيرهن.ولما كان حكمهن والرجال واحدًا، جعل الحكم مشتركًا، فقال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وهذا في الشرائع الظاهرة، إذا كانوا قائمين بها. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وهذا في الأمور الباطنة، من عقائد القلب وأعماله. وَالْقَانِتِينَ أي: المطيعين للّه ولرسوله وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ في مقالهم وفعالهم وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ على الشدائد والمصائب وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ في جميع أحوالهم،خصوصًا في عباداتهم، خصوصًا في صلواتهم، وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ فرضًا ونفلاً وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ شمل ذلك، الفرض والنفل. وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ عن الزنا ومقدماته، وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ [كَثِيرًا أي:] في أكثر الأوقات، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة، كالصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبات وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي، ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعد وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان.فجازاهم على عملهم بِالْمَغْفِرَةً لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات. وَأَجْرًا عَظِيمًا لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل اللّه أن يجعلنا منهم.

تفسير ابن كثير (عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي)

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عثمان بن حكيم ، حدثنا عبد الرحمن بن شيبة ، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت : فلم يرعني منه ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر ، قالت ، وأنا أسرح شعري ، فلففت شعري ، ثم خرجت إلى حجرة من حجر بيتي ، فجعلت سمعي عند الجريد ، فإذا هو يقول عند المنبر : " يا أيها الناس ، إن الله يقول : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات " إلى آخر الآيةوهكذا رواه النسائي وابن جرير ، من حديث عبد الواحد بن زياد ، به مثلهطريق أخرى عنها : قال النسائي أيضا : حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا سويد ، أخبرنا عبد الله بن شريك ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا نبي الله ، ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ، والنساء لا يذكرن ؟ فأنزل الله ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات )وقد رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة : أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، حدثه عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أيذكر الرجال في كل شيء ولا نذكر ؟ فأنزل الله : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآيةطريق أخرى : قال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، يذكر الرجال ولا نذكر ؟ فأنزل الله : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآيةحديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا سيار بن مظاهر العنزي حدثنا أبو كدينة يحيى بن المهلب ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ؟ فأنزل الله : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآية وحدثنا بشر حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ; عن قتادة قال : دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلن : قد ذكركن الله في القرآن ، ولم نذكر بشيء ، أما فينا ما يذكر ؟ فأنزل الله عز وجل : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآيةفقوله : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) دليل على أن الإيمان غير الإسلام ، وهو أخص منه ، لقوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) [ الحجرات : 14 ] وفي الصحيحين : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فيسلبه الإيمان ، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين ، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري[ وقوله ] : ( والقانتين والقانتات ) القنوت : هو الطاعة في سكون ، ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) [ الروم : 26 ] ، ( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) [ آل عمران : 43 ] ، ( وقوموا لله قانتين ) [ البقرة : 238 ] فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها ، ثم القنوت ناشئ عنهما( والصادقين والصادقات ) : هذا في الأقوال ، فإن الصدق خصلة محمودة; ولهذا كان بعض الصحابة لم تجرب عليه كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام ، وهو علامة على الإيمان ، كما أن الكذب أمارة على النفاق ، ومن صدق نجا ، " عليكم بالصدق; فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة وإياكم والكذب; فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " والأحاديث فيه كثيرة جدا( والصابرين والصابرات ) : هذه سجية الأثبات ، وهي الصبر على المصائب ، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة ، وتلقي ذلك بالصبر والثبات ، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى ، أي : أصعبه في أول وهلة ، ثم ما بعده أسهل منه ، وهو صدق السجية وثباتها( والخاشعين والخاشعات ) الخشوع : السكون والطمأنينة ، والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته ، [ كما في الحديث ] : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "( والمتصدقين والمتصدقات ) : الصدقة : هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء ، الذين لا كسب لهم ولا كاسب ، يعطون من فضول الأموال طاعة لله ، وإحسانا إلى خلقه ، وقد ثبت في الصحيحين : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " فذكر منهم : " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وفي الحديث الآخر : " والصدقة تطفئ الخطيئة ، كما يطفئ الماء النار "[ وفي الترمذي عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء "وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ، ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه ، فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه ، فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة "وفي حديث أبي ذر أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال : " الإيمان بالله " قلت : يا نبي الله ، مع الإيمان عمل ؟ قال : " ترضخ مما خولك الله " ، أو " ترضخ مما رزقك الله " ; ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد قال في خطبته : " يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار " وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار ، وقال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ذكر لي أن الأعمال تتباهى ، فتقول الصدقة : أنا أفضلكموفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثل البخيل والمتصدق ، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد ، أو جنتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما ، فجعل المتصدق ، كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه ، حتى تغشى أنامله ، وتعفو أثره ، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت ، وأخذت كل حلقة مكانها قال أبو هريرة : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا يتسع وقد قال تعالى : ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) [ التغابن : 16 ] فجود الرجل يحببه إلى أضداده ، وبخله يبغضه إلى أولاده كما قيل :ويظهر عيب المرء في الناس بخله وتستره عنهم جميعا سخاؤه تغط بأثواب السخاء فإننيأرى كل عيب والسخاء غطاؤه ]والأحاديث في الحث عليها كثيرة جدا ، له موضع بذاته( والصائمين والصائمات ) : في الحديث الذي رواه ابن ماجه : " والصوم زكاة البدن " أي : تزكيه وتطهره وتنقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعاقال سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر ، دخل في قوله : ( والصائمين والصائمات )ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباء فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " - ناسب أن يذكر بعده : ( والحافظين فروجهم والحافظات ) أي : عن المحارم والمآثم إلا عن المباح ، كما قال تعالى : ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ) [ المؤمنون : 5 - 7 ]وقوله : ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) قال ابن أبي حاتم :حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن جابر ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل ، فصليا ركعتين ، كتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات "وقد رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث الأعمش ، [ عن علي بن الأقمر ] ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثلهوقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات "قال : قلت : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل منه "وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة ، فأتى على جمدان فقال : " هذا جمدان ، سيروا فقد سبق المفردون " قالوا : وما المفردون ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا " ثم قال : " اللهم اغفر للمحلقين " قالوا : والمقصرين ؟ قال : " اللهم ، اغفر للمحلقين " قالوا : والمقصرين ؟ قال : " والمقصرين "تفرد به من هذا الوجه ، ورواه مسلم دون آخرهوقال الإمام أحمد : حدثنا حجين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن زياد بن أبي زياد - مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة - أنه بلغه عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله " وقال معاذ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم غدا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم " ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : " ذكر الله عز وجل "وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رجلا سأله فقال : أي المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله ؟ فقال : " أكثرهم لله ذكرا " قال : فأي الصائمين أكثر أجرا ؟ قال : " أكثرهم لله ذكرا " ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثرهم لله ذكرا " فقال أبو بكر لعمر ، رضي الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أجل "وسنذكر بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ) الآية [ الأحزاب : 41 ، 42 ] ، إن شاء الله تعالىوقوله : ( أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) أي : هيأ لهم منه لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة

تفسير الوسيط لطنطاوي (محمد سيد طنطاوي)

ورد في سبب نزول هذه الآية روايات منها: ما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم: مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إلا نداؤه على المنبر، وهو يتلو هذه الآية: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ....وأخرج الترمذي وغيره عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزلت هذه الآية.وأخرجه ابن جرير عن قتادة قال: دخل نساء على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلن: قد ذكركن الله- تعالى- في القرآن، وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية.والمعنى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ والإسلام: الانقياد لأمر الله- تعالى- وإسلام الوجه له- سبحانه- وتفويض الأمر إليه وحده.وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ والإيمان: هو التصديق القلبي، والإذعان الباطني، لما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم.وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ والقنوت: هو المواظبة على فعل الطاعات عن رضا واختيار.وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ والصدق: هو النطق بما يطابق الواقع، والبعد عن الكذب والقول الباطل..وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ والصبر: هو توطين النفس على احتمال المكاره والمشاق في سبيل الحق، وحبس النفس عن الشهوات.وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ والخشوع: صفة تجعل القلب والجوارح في حالة انقياد تام لله- تعالى- ومراقبة له، واستشعار لجلاله وهيبته.وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ والتصدق: تقديم الخير إلى الغير بإخلاص، دفعا لحاجته، وعملا على عونه ومساعدته.وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ والصوم: هو تقرب إلى الله- تعالى-، واستعلاء على مطالب الحياة ولذائذها، من أجل التقرب إليه- سبحانه- بما يرضيه.وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وحفظ الفرج: كناية عن التعفف والتطهر والتصون عن أن يضع الإنسان شهوته في غير الموضع الذي أحله الله- تعالى-.وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وذكر الله- تعالى- يتمثل في النطق بما يرضيه كقراءة القرآن الكريم، والإكثار من تسبيحه- عز وجل- وتحميده وتكبيره..وفي شعور النفس في كل لحظة بمراقبته- سبحانه-.هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات من الرجال والنساء أَعَدَّ اللَّهُ- تعالى- لَهُمْ مَغْفِرَةً واسعة لذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً لا يعلم مقداره إلا هو- عز وجل-.وهكذا نجد القرآن الكريم يسوق الصفات الكريمة، التي من شأن الرجل والمرأة إذا ما اتصفا بها، أن يسعدا في دنياهما وفي أخراهما، وأن يسعد بهما المجتمع الذي يعيشان فيه ...إنها صفات نظمت علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبغيره، تنظيما حكيما، يهدى الى الرشد، ويوصل إلى الظفر والنجاح.ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن الحقوق الواجبة على المسلم نحو خالقه- عز وجل- ونحو رسوله صلّى الله عليه وسلم، وعن تأكيد إبطال عادة التبني التي كانت منتشرة قبل نزول هذه السورة، وعن بيان الحكمة لهذا الإبطال، وعن علاقة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بغيره من أتباعه.. فقال- تعالى-:

تفسير البغوي (الحسين بن مسعود البغوي أبو محمد)

قوله - عز وجل - : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآية . وذلك أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير ، فما فينا خير نذكر به ، إنا نخاف أن لا يقبل الله منا طاعة ، فأنزل الله هذه الآية .قال مقاتل : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ونيسة بنت كعب الأنصارية للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه ، نخشى أن لا يكون فيهن خير ؟ فنزلت هذه الآية .وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن ؟ قلن : لا . فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار ، قال : ومم ذاك ؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال ، فأنزل الله هذه الآية : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين ) المطيعين ( والقانتات والصادقين ) في إيمانهم وفيما ساءهم وسرهم ( والصادقات والصابرين ) على ما أمر الله به ( والصابرات والخاشعين ) المتواضعين ( والخاشعات ) وقيل : أراد به الخشوع في الصلاة ، ومن الخشوع أن لا يلتفت ( والمتصدقين ) مما رزقهم الله ( والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم ) عما لا يحل ( والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ) قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا .وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد سبق المفردون " ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .قال عطاء بن أبي رباح : من فوض أمره إلى الله - عز وجل - فهو داخل في قوله : " إن المسلمين والمسلمات " ، ومن أقر بأن الله ربه ومحمدا رسوله ، ولم يخالف قلبه لسانه ، فهو داخل في قوله : " والمؤمنين والمؤمنات " ، ومن أطاع الله في الفرض ، والرسول في السنة : فهو داخل في قوله : " والقانتين والقانتات ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : " والصادقين والصادقات " ، ومن صبر على الطاعة ، وعن المعصية ، وعلى الرزية : فهو داخل في قوله : " والصابرين والصابرات " ، ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله : " والخاشعين والخاشعات " ، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : " والمتصدقين والمتصدقات " ، ومن صام في كل شهر أيام البيض : الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر ، فهو داخل في قوله : " والصائمين والصائمات " ، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله : " والحافظين فروجهم والحافظات " ، ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : " والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " . ( أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )

تفسير القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي)

قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .فيه مسألتان :الأولى : روى الترمذي عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ما أرى كل شيء إلا للرجال ، وما أرى النساء يذكرن بشيء ! فنزلت هذه الآية : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الآية . هذا حديث حسن غريب . و ( المسلمين ) اسم إن . ( والمسلمات ) عطف عليه . ويجوز رفعهن عند البصريين ، فأما الفراء فلا يجوز عنده إلا فيما لا يتبين فيه الإعراب .الثانية : بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح ، ثم ذكر الإيمان تخصيصا له وتنبيها على أنه عظم الإسلام ودعامته . والقانت : العابد المطيع . والصادق : معناه فيما عوهد عليه أن يفي به . والصابر عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط . والخاشع : الخائف لله . والمتصدق بالفرض والنفل . وقيل . بالفرض خاصة ، والأول أمدح . والصائم كذلك . والحافظين فروجهم والحافظات أي عما لا يحل من الزنى وغيره . وفي قوله : ( والحافظات ) حذف يدل عليه المتقدم ، تقديره : والحافظاتها ، فاكتفي بما تقدم . وفي ( الذاكرات ) أيضا مثله ، ونظيره قول الشاعر :وكمتا مدماة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهبوروى سيبويه : لون مذهب بالنصب . وإنما يجوز الرفع على حذف الهاء ، كأنه قال : واستشعرته ، فيمن رفع لونا . والذاكر قيل في أدبار الصلوات وغدوا وعشيا ، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم . وقد تقدم هذا كله مفصلا في مواضعه ، وما يترتب عليه من الفوائد والأحكام ، فأغنى عن الإعادة . والحمد لله رب العالمين . قال مجاهد : لا يكون ذاكرا لله تعالى كثيرا حتى يذكره قائما وجالسا ومضطجعا . وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : من أيقظ أهله بالليل وصليا أربع ركعات كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات .
ex